السبت، 6 مارس 2021

نقطة تائهة!؟! (مجموعة "خداع بصر"- 17)

 

  

نقطة.. تائهة !؟!

 


 كان زمن الفلسفة.. دخل الأستاذ "نابه الكاتب" لمكتبة الجامعة وهو يقرأ في كتاب مفتوح أمام عينيه أثناءسبره..

ونظر للافتة قسم "الفلسفة" ودلف له وسار كمن يعرف طريقه نحو رف "فلسفة الصدفة"، وجال ببصره عبر صفوف الكتب به فلم يجد ما يريد..

 

إنه هنا "للصدفة".. أوشك على "تشطيب" رسالة دكتوراه غير مسبوقة عن نظرية الصدفة.. كان هناك كتاب يبحث عنه وتركه أمساً ولم يجده..

 

أجابه أمين المكتبة بنبرة شكاية بمفردات تليق بأمين مكتبة الجامعة:

-- من أسف يا أستاذ زملاء حضرتك الاساتذة لا يعتنون بوضع كل كتاب ياخذونه في موضعه.. ليسوا مثل حضرتك تعيد الكتاب لذات موضعه..

ابحث حضرتك او انتظر للغد بعد نوبة ترتيب كل الكتب في ختام اليوم..

= لا إشكال.. انا كدت انتهي من عملي وكنت فقط أحب اتاكد من أرقام الصحفات لأن لا احب نقطة واحدة تكون تائهة أو في غير مكانها..

مثلما جوهر البحث لا تفوته نقطة فالمظهر يجب أن يوافق الجوهر يا صديقي..

الأسلوب والهوامش وارقام الصفحات تكون بنفس دقة المضمون عندي..

-- احسنت يا استاذ ربنا يبارك لك في عملك موفق دائماً.. اعمل معروف كن حريصاً على اعادة الكتب لموضعها

 

عاد الأستاذ "نابه" لرف كتب الصدفة ليبحث عن كتب أخرى يطلبها أيضاً، اليوم هو يوم التاكد أنه لا نقطة تاهت منه في أي هامش..

أما جسم بحثه فقد انتهى كأحكم وأتقن ما يمكن.. يتحدى أي واحد ان يجادل بعدها في صحة نظرية الصدفة..

 

فرغ من توثيق عمله وقام لإعادة الكتب بعناية لموضعها..

وفيما يبحث بالمرة عن كتبه المزيدة لتجهيزها لعمل الغد فقد صدم عينه كتاباً بغلاف أحمر..

هذا غريب لم يكن هنا أمس.. التقطه بغريزة الفضول فوجده كتاب "الحتمية الجدلية"..

ابتسم.. يضعون كتاباً عن "الحتمية" في رف "الصدفة".. إنهم سكارى أولئك الباحثين له حق حضرة الأمين أن يشكو منهم..

يراهن أن كتابه المفقود موضوع في رف "الحتمية" في موضع هذا الكتاب الأحمر..

 

سيصنع خيراً لأمين المكتبة الطيب ويعيد الكتاب الغريب لموصعه،

وفي طريقه لإعادة هذا الكتاب الذي عثر عليه بصدفة غير مقصودة فتحه عشواءً على صفحة ما، وقرأ فيه وهو يسير.. الطبع غالب..

استرعت نظره حجة ما في الكتاب.. جلس به على أول مقعد اصطدم فيه أثنا سيره..

اكمل قراءته.. كان الاستاذ نابه من جيل امانة البحث يعبدون الحق العلمي والخير الفلسفي.. لا يكابر..

بعد فروغه من قراءة هذه الحجة التي صدمت عينه بغير اتفاق قرر أن يؤجل موعد تشطيبه لبحثه..

ينبغي أن يتضمن بحثه الرد على هذه الحجة التي تثبت "الحتمية"..

أخذ معه الكتاب الأحمر ليلاً لمنزله.. سهر عليه.. ولم يشرق نور الشمس إلا وقد أيقن أنه قد سار طيلة بحثه عن الصدفة في طريق خاطئ..

والحق احق بالاتبّاع.. سيعيد البحث من أوله..

 

في أول فرصة مع الأستاذ الدكتور المشرف قال الأستاذ "نابه":

= هاغير كل شئ يا أستاذنا.. الحتمية هي الحق..

ومافيش تأخير عن موعد المناقشة إلا شهر بالكثير إن تكرمت وساعدتني في ترتيب الأمر دا إدارياً..

--- مثير يا "نابه".ز تعديل موعد املناقشة أمره يسير لكن انتبه تغيير الموضوع يستدعي تغيير لجنة المناقشة..

= بداهة وبكل سرور..

--- بالعكس حظك طيب.. في فصل الصيف القادم هيكون ضيف قسم الفلسفة البروفسور "جاك تولان" زعيم نظرية "الحتمية الجدلية" في العالم الآن..

وكلي ثقة ان رسالتك هتكون بالإتقان اللي يستدعي تقديره، وتبيض لك في القفص يا عم "نابه"..

= انا نباتي يا استاذنا..

--- بيع البيض تربح ربح وفير.. لما بروفسور "جاك" يقدَّرك حزب الحتمية المنتعش في البلد الآن هيتكتلوا حولك،

وشأنك هيرتفع في الوسط الثقافي..

= لست رجل احزاب ولا تحزب يا أستاذنا..

--- وهو لما تكون رجل فلسفة وغني ومشهور أحلى أم تكون رجل فلسفة وفقران؟

الحتمية تضمن لك فوق العلم ثراء ومجد وشهرة.. لها ناسها.. أحلى من الصدفة القرية دي..

= المهم الرسالة تكون تامة الدقة وبلا نقطة شاردة دا كل موضوع عنايتي..

--- انت تلميذنا النزيه انا اللي باقول مش انت ان نظرية الحتمية هتفتح عليك خير كتير تستاهله..

 انا عارفك مش هتسيب لنظريو الصدفة ذرة احتجاج.. انطلق يا فارس الحتمية ولتسقط الصدفة..

 

أتم "نابه" كل شئ.. عاد للرد على كل حججه لإثبات "الصدفة".. لتفنيد كل حججه لتخطئة "الحتمية"..

انتهى لنتيجته التي يتحدى بها العالمين:

الحتمية حق وليس ثمة شئ بالصدفة قط..

وكان ينقصه أن يقول "ولو فيه راجل شايف غير كدة يطلع لي"..

 

ودخل يوم المناقشة مزهواً زهو شباب العلماء باكتشافاتهم التامة الإتقان..

وتفاجأ بوجود جمهور لم يعرفه ولا توقعه.. فسر له أستاذه أن جماعة الحتمية تنادوا بظهور بحث جامعيّ فذ يحطم "الصدفة" ويثبت "الحتمية"، فما كان منهم إلا التجمع لمناصرته والتعرف على صاحبه..

وجد "نابه" نفسه واقفاً فوق بحث علميّ فلسفيّ جبّار يدفع ثمن اتلعب فيه.. ففوق المجد العلميّ مجد الحق والخير والجمال في ذاته فإنه أتى له بفريق كامل من الناشطين في الحياة والمجتمع، ومعهم أساتذة من أعلام الفلسفة الحتمية في العالم أتوا بدعوات من أولئك المستجدين على معارفه..

وفوق الكل أتى بروفسور "جاك" فكاتمل نصاب عظيم.. وقف أمامه "نابه" لا تكاد الأرض تلمسه..

لقد أنجز..

تحيا الحتمية..

 

بعد المناقشة والتصفيق وقف بجوار صف من نسخ بحثه يهدي منها لمن يصافحونه..

وقعت عينه على غلاف أحد النسخ على شئ ارتاعه.. هناك نقطة ناقصة في طبعة الغلاف..

هناك نقطة ناقصة.. ارتاع..

البحث كامل كل شئ كامل متقن بلا نقطة تائهة ولا فالتة.. فكيف لم ينتبه لهذه النقطة غير التامة الظهور في الطباعة؟

لا لا يمكن لبحثه الأثير الذي أعاد العمل فيه قبل مناقشته بشهر الذي اتخذ قراره الأجرأ بإعادته،

بعدما وقع له كتاب الحتمية بالصدفة ليثبت الحتمية إثباتاً استدعى كل أهلها للوقوف والتصفيق له من حيث لم يكن يعرفهم أصلاً..

لا لا لا.. لا يمكن أن تكون هناك لا تزال نقطة تائهة في بحثي غير المسبوق عن تحطيم "الصدفة" ولو كانت خطئاً مطبعياً..

وأمسك بالنسخة بيد مرتعشة..

 

فيما هو مرتعد أتاه صوت أحد المهنئين:

---- عمل عظيم يا أستاذ نابه.. ولا نقطة فلتت منك ولا نقطة.. كل شئ حتمى بلا صدفة.......

أعطاه النسخة التي بيده، فظهرت النقطة التائهة.. لم يكن ثمة إشكال إنما كان هناك ذرة غبار من لون الغلاف غطت على النقطة..

---- ....... بحث بلا نقطة ناقصة يا أستاذنا، لا عزاء لنظرية الصدفة بعده ابداً.. لا صدفة بعد اليوم هاهاها مبروك..

سمع نابه بقية كلام المهنئ وهو يستعيد ارتياحه بأن النقطة ظهرت ولم تكن تائهة منه..

 

ارتاح نابه وامتلأ بالاطمنان العلميّ والنفسيّ،

ولكن في مستوى ما من عقله الباطن بقي مقطع من كلمات ارتعابه السالفة يلح عليه:

"لا تزال هناك نقطة تائهة في جسم البحث... بحثي عن تحطيم الصدفة"!؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق

تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.