في أرشيف إحدى الجرائد الكبرى عثر عامل على
ورقات مكتوبة بخط اليد، ظهر له أنها من عمل زميل سبقه في المكان بعشرات السنين في
زمن حرب إقليمية وقلق سياسي دولي، وأغلب الظن أنه كتبها لمكافحة نفس حالة الملل من
الجلوس قبالة الأرفف لما تكدس عليها من أوراق جاذبة للاتربة..
وكأنما
انتقل الملل من حال الكاتب القديم والقارئ الجديد لها إلى حبر الكتابة نفسه الذي
ملّ من الورق وكاد يبهت..
فتحها
العامل وبدأ يقرأ، وهو يسأل نفسه أمن وحي خيال الملل تلك الأحداث؟! أم أن الزميل
سجّل شهادة عيان لما وقع أمامه أو تسرب لردهات بناية الصحيفة في وقت عمله بها؟!
لصعوبة قراءة الكلمات الباهتة غير الظاهرة
فكّر موظف الأرشيف القارئ لها ان يعيد كتابتها بخط يده ويكون منه مزيد من التسلية،
على انه ندم على محاولته تلك لما عاناه مع كل كلمة، فطالما وجد أن تغيير نقطة أو
حرف يعكس المعنى حتى كاد يفقد عقله..
ولولا أنه أعاد نسخها لإنقاذها قبل أن يفرّ
حبرها من ورقها لما أمكن وصولها ليدي في زمن الكتابة على لوحة المفاتيح الذي لا
يبهت حبره قط ولا تحمل كلماته معنيين، ومعكم القصة بحسب ما استخلصه عامل الأرشيف
من مخطوطة زميله السابق عليه بأكثر من ثلاثين سنة:
1
غادر المسئول الكبير قاعة المؤتمر الصحفي
تاركاً مجموعة رؤساء التحرير يحدقون في اللاشئ..
وما
عن غادر حتى وجد رؤساء الصحف وكبارها وجوههم في اوجه بعضهم، حتى صاح أحدهم، وهو
طلق الكلام، وبنبرة مرحة:
تعالوا
نشرب حاجة.. المكان هنا بيقدم قهوة معتبرة علشان المقالات تقول اللازم..
وفي
جلستهم على المناضد الفاخرة تبادلوا الملاحظات المهنية..
-
لسة الموقف متبلورش
-
الموقف متبلور يا أستاذنا، لكن لسة ساعة الإعلان
-
معتقدش.. شكل لسة فيه مفاوضات سرية
-
يتهيألي الموقف اللي متبلورش هو موقف الدولة الكبرى، واحنا لازم
نستني
-
يتبلور ولا عنه متبلور.. المشكلة إنه ميتبلورش قبل المطبعة بساعة
-
ده لازم.. كالعادة الموقف يعلنوه واحنا نكون كاتبين مقالات عايمة..
وقبل المطبعة بساعة يعلنوا الموقف فنلغي ونشطب ونعيد الكتابة
-
لكن المرة دي أريح.. على الأقل عارفين إن الموقف هيعلن النهاردة..
فمش هنكتب قبل ما يعلنوه
-
المهم يعلنوه بدري علشان منتزنقش.. الموضوع شائك ومحتاج تركيز ووقت
في الكتابة..
-
خصوصاً مقالات الافتتاحية دي بتاخد صفحة.. ده لو هننسخها نقل مش
نكتبها من الأصل تاخد الوقت كله
هنا
تنحنح أحدهم، ضخم الجثة ويظهر أنه من رؤساء التحرير المبرزين، وقال بصوت ملحوظ
السخرية المرحة مقاطعاً:
= إتكلم عن نفسك إنت وهو.. أنا الموقف الرسمي
ميعطلنيش.. أنا يهمني المبدأ.. بكتب مبدأ يا حضرات.. وده ميتحتاجش لبلورة أي موقف
-
يا راجل؟
-
بجد؟
-
(ضحك ينفجر في القاعة)
-
يعني كتبت مقالك المرة دي ومش مستني بلورة الموقف الرسمي؟ طب
قولهولنا كدة
= ماهو لسة مكملش
-
طب قول لنا موقفك المبدئي.. هتكتب في صف دولة البسكويت ولا دولة
العراك؟
= مانا مستني معاكم الموقف لما يتبلور
-
انت مش بتقول مواقفك مبدئية.. مالك بقى ومال الموقف الرسمي!؟
= انا مقلتش مواقفي مبدئية.. أرجو الدقة يا
حضرات الكُتَّاب..
أنا قلت مقالاتي مبدئية..
-
إيه الفرق؟
= الفرق إني كتبت مبدأ المقال..
الديباجة.. افتتاحيته يعني.. بدايته.. لكن متن المقال مستني الموقف.
-
(يعود الضحك ليدوي في القاعة)
-
قلت لناااا.. كتبت "مبدأ" المقال..
= طبعاً.. يبقى اسمي خلَّصت حاجة واستفيد
بالوقت..
ظل
واحد نحيف بارد الملامح عيناه تحدقان في كل شئ ولا شئ، واتجهت إليه الأنظار كأنما
باتفاق:
- وانت يا أستاذ بطاطا إيه أخبار المقال معاك؟
أجاب
"بطاطا" وهو اسم على غير مسمى من حيث الشكل او لعله على مسمى من حيثية
أخرى:
==
أنا خلصت المقال.
-
نعم؟ انت شكلك عارف الموقف الرسمي.. طبعاً ما انت عالحجر..
ضجت
القاعة بالضحك من صورة "بطاطا" جالساً على الحجر.. ولكنه قال بجفاء:
==
إنتو عارفين إن الموقف لسة لم يتم تحديده أساساً.. يبقى هعرفه إزاي؟
-
أمال كتبت المقال إزاي؟
==
كتبت رأيي زي ما هو.
-
مع مين؟
==
مع الحق.
-
والحق مع مين في وجهة نظرك؟
رد
بتبرم واضح:
==
مع اللي هتعرفوه لما تقروا المقال بكرة
-
إنت كتبت المقال بجد؟
==
طبعاً.. مبدأ ومتن.. وخاتمة.. مش زي ناس.
-
بس انت شكلك قلق وبتفكَّر.. طب بتفكر في إيه لما كتبت مقالك ووديته المطبعة يتجمع
كمان؟
==
بفكر في العنوان.. هو بس اللي مكتبتوش.
-
إشمعنى؟
==
العنوان أهم شئ في المقال ولازم يتكتب في الآخر ويعبر عن الموقف في كلمتين..
العنوان
أصعب وأهم شئ.
تلقى
عدة تعليقات تستصوب وتستحسن فكرته عن العنوان.. ثم خيم الصمت.. صمت القلق..
بدأ
الوقت يمر والحاضرون يقلقون وتسري الهمهمات: مفيش وقت.. هنلحق نكتب إمتى.. المطابع
متأخرة.. أخيراً عاد المؤتمر الصحفي للانعقاد بعد أن اقترب الجميع من حافة
الانهيار البدني والعصبي.. وأُعلِن الموقف.. وعاد الجميع مسرعين لكتابة بضعة اسطر
تكفي في حدود الوقت لتكون مقال الافتتاحية..
أما
"بطاطا" فأسفرت شفتاه عن ابتسامة هدوء وثقة.. وعاد بخطى هادئة.. فهو لن
يحتاج إلا لإملاء عامل المطبعة عدة كلمات هي العنوان يضيفهم للمقال الذي تم جمعه
بالفعل ليرسله للمطبعة من فوره..
2
وفي
مكتبه انجعص "بطاطا" واستدعى الخطّاط واملاه ثلاثة كلمات للعنوان
انصرف
ذك للتنفيذ فيما كتب بطاطا ورقة عاجلة لسكرتير التحرير، مع طلب كتابي أسفله بتكليف
مراجعة المقال المجموع بنفسه قبل نشره لئلا تظهر به أخطاء مطبعية، والموقف لا
يحتمل.. وذهب السكرتير بعنوان المقال للمطبعة، وبدأ يراجع المقال المجموع بالفعل:
"إن موقف دولتنا موقف مبدئي.. إننا مع الحق.. لا
لفائدة نجنيها.. وماذا جنينا او نجني من أشقائنا إلا احتمال المصاعب في ظروف
اقتصادية طاحنة.. ولكنه المبدأ.. إن دماء أولادنا نزفت من اجل المبدأ.. إننا لم
نطلب أبداً من شقيق أو صديق ثمناً لمواقفنا.. ولنراجع التاريخ معاً في هذا الموقف
العصيب لنرى من يقبض ومن يضحي ومن يفسد تضحياتنا؟ إن ما يحدث الآن واضح جداً..
وموقفنا لم يكن مفاجأة.. نعم كان الجميع يتساءلون: لماذا صمتت دولتنا ولم تبادر بإعلان موقفها؟ أما
أنا فقد كتبت من فوري هذا المقال ومن اليوم الأول، وأقسم يميناً غير حانث أن هذا
ما حدث، ولكن احتراماً لحكمة القيادة في تأجيل إعلان الموقف أجَّلت النشر أيضاً
معاونة وتماشياً مع القيادة في موقفها الحكيم.. الموقف إذن مبدئي من البداية ومن
المبدأ.. أما التأخير فهو تأجيل إعلان لحكمة.. وإن كان البعض يلوم دولتنا على
تأخرها في إعلان موقفها بصراحة، فما ذلك إلا لأننا نعطي الفرصة للحل السلمي،
ونحافظ على ماء وجه الأشقاء.. لقد اجتمع الصحفيون لساعة متأخرة.. وألححنا على
رئيسنا بإعلان الموقف الذي نعرفه جميعاً والذي ما كان ممكناً له إلا إعلانه لأنه
يمثل دولة القيم والمبادئ.. ولكنه بهدوء ورزانة الحكماء وحرص الشقيق على الشقيق
كان يقول: لنعطي فرصة الساعة الأخيرة.. وأعطى وظل يعطي حتى فرصة الدقيقة الأخيرة..
والثانية الأخيرة.. وكنا قد اقتربنا من التهالك ونحن مجرد صحفيين ننتظر الأخبار..
فما بالنا برجل العمل والسياسة والزعيم الأكبر.. ولكنه ظل مرابطاً بجانب الهاتف
يحاول ويحاول.. ثم لم يكن بد من أن يأخذ
الموقف مكانه المبدئي.. لقد استنفد مبدأ مراعاة الاخوة وقته.. دون ان يستفيد الاخ
المارق.. الخارج على كل مبادئ الاخوة.. ولقد صبرنا وحاولنا.. ولكن إذ قد أعطينا
فرصة كافية.. وجدّ الجد.. وزهق الهزل.. فإننا نأخذ موقفنا المبدئي الواضح الذي
أعلنه نظامنا أمس في ساعة متأخرة.. والذي يعرفه العالم الآن.. والآن أرجو أن تكون
يا عزيزي القارئ ويا كل قارئ قد وجدت في المقال جواباً قاطعاً وتفسيراً ساطعاً سؤال
العنوان!"
فرغ
السكرتير من مراجعة المقال، وكان الخطّاط قد أتى بالعنوان جاهزاً للطباعة بالخط
الأحمر فألقى السكرتير عليه نظرة وقرأ: لماذا نؤيد ......
وتمتم
ببعض الكلمات وهو يكمل بقية كلمات العنوان كما حكى لي من حكى، لا أكتب كلمات
سكرتير التحرير ولا أفيد باسم من أبلغني، ولا أُفصِح عن علة امتناعي، فالإفصاح عن
الواضح ركاكة وإيضاح الواضح فاضح.
انتهى نقل ما نسخه الموظف الجديد عن الورق الباهت الذي كتبه زميله
السابق عليه بثلاثة عقود من السنين ونيِّف...
الأول كتبها ليتسلَّى والثاني نسخها ليتسَلَّى وأنا أعرضها على قراء
مقالات الافتتاحيات لتعمّ التسلية......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق