السبت، 6 مارس 2021

نقطة تائهة!؟! (مجموعة "خداع بصر"- 17)

 

  

نقطة.. تائهة !؟!

 


 كان زمن الفلسفة.. دخل الأستاذ "نابه الكاتب" لمكتبة الجامعة وهو يقرأ في كتاب مفتوح أمام عينيه أثناءسبره..

ونظر للافتة قسم "الفلسفة" ودلف له وسار كمن يعرف طريقه نحو رف "فلسفة الصدفة"، وجال ببصره عبر صفوف الكتب به فلم يجد ما يريد..

 

إنه هنا "للصدفة".. أوشك على "تشطيب" رسالة دكتوراه غير مسبوقة عن نظرية الصدفة.. كان هناك كتاب يبحث عنه وتركه أمساً ولم يجده..

 

أجابه أمين المكتبة بنبرة شكاية بمفردات تليق بأمين مكتبة الجامعة:

-- من أسف يا أستاذ زملاء حضرتك الاساتذة لا يعتنون بوضع كل كتاب ياخذونه في موضعه.. ليسوا مثل حضرتك تعيد الكتاب لذات موضعه..

ابحث حضرتك او انتظر للغد بعد نوبة ترتيب كل الكتب في ختام اليوم..

= لا إشكال.. انا كدت انتهي من عملي وكنت فقط أحب اتاكد من أرقام الصحفات لأن لا احب نقطة واحدة تكون تائهة أو في غير مكانها..

مثلما جوهر البحث لا تفوته نقطة فالمظهر يجب أن يوافق الجوهر يا صديقي..

الأسلوب والهوامش وارقام الصفحات تكون بنفس دقة المضمون عندي..

-- احسنت يا استاذ ربنا يبارك لك في عملك موفق دائماً.. اعمل معروف كن حريصاً على اعادة الكتب لموضعها

 

عاد الأستاذ "نابه" لرف كتب الصدفة ليبحث عن كتب أخرى يطلبها أيضاً، اليوم هو يوم التاكد أنه لا نقطة تاهت منه في أي هامش..

أما جسم بحثه فقد انتهى كأحكم وأتقن ما يمكن.. يتحدى أي واحد ان يجادل بعدها في صحة نظرية الصدفة..

 

فرغ من توثيق عمله وقام لإعادة الكتب بعناية لموضعها..

وفيما يبحث بالمرة عن كتبه المزيدة لتجهيزها لعمل الغد فقد صدم عينه كتاباً بغلاف أحمر..

هذا غريب لم يكن هنا أمس.. التقطه بغريزة الفضول فوجده كتاب "الحتمية الجدلية"..

ابتسم.. يضعون كتاباً عن "الحتمية" في رف "الصدفة".. إنهم سكارى أولئك الباحثين له حق حضرة الأمين أن يشكو منهم..

يراهن أن كتابه المفقود موضوع في رف "الحتمية" في موضع هذا الكتاب الأحمر..

 

سيصنع خيراً لأمين المكتبة الطيب ويعيد الكتاب الغريب لموصعه،

وفي طريقه لإعادة هذا الكتاب الذي عثر عليه بصدفة غير مقصودة فتحه عشواءً على صفحة ما، وقرأ فيه وهو يسير.. الطبع غالب..

استرعت نظره حجة ما في الكتاب.. جلس به على أول مقعد اصطدم فيه أثنا سيره..

اكمل قراءته.. كان الاستاذ نابه من جيل امانة البحث يعبدون الحق العلمي والخير الفلسفي.. لا يكابر..

بعد فروغه من قراءة هذه الحجة التي صدمت عينه بغير اتفاق قرر أن يؤجل موعد تشطيبه لبحثه..

ينبغي أن يتضمن بحثه الرد على هذه الحجة التي تثبت "الحتمية"..

أخذ معه الكتاب الأحمر ليلاً لمنزله.. سهر عليه.. ولم يشرق نور الشمس إلا وقد أيقن أنه قد سار طيلة بحثه عن الصدفة في طريق خاطئ..

والحق احق بالاتبّاع.. سيعيد البحث من أوله..

 

في أول فرصة مع الأستاذ الدكتور المشرف قال الأستاذ "نابه":

= هاغير كل شئ يا أستاذنا.. الحتمية هي الحق..

ومافيش تأخير عن موعد المناقشة إلا شهر بالكثير إن تكرمت وساعدتني في ترتيب الأمر دا إدارياً..

--- مثير يا "نابه".ز تعديل موعد املناقشة أمره يسير لكن انتبه تغيير الموضوع يستدعي تغيير لجنة المناقشة..

= بداهة وبكل سرور..

--- بالعكس حظك طيب.. في فصل الصيف القادم هيكون ضيف قسم الفلسفة البروفسور "جاك تولان" زعيم نظرية "الحتمية الجدلية" في العالم الآن..

وكلي ثقة ان رسالتك هتكون بالإتقان اللي يستدعي تقديره، وتبيض لك في القفص يا عم "نابه"..

= انا نباتي يا استاذنا..

--- بيع البيض تربح ربح وفير.. لما بروفسور "جاك" يقدَّرك حزب الحتمية المنتعش في البلد الآن هيتكتلوا حولك،

وشأنك هيرتفع في الوسط الثقافي..

= لست رجل احزاب ولا تحزب يا أستاذنا..

--- وهو لما تكون رجل فلسفة وغني ومشهور أحلى أم تكون رجل فلسفة وفقران؟

الحتمية تضمن لك فوق العلم ثراء ومجد وشهرة.. لها ناسها.. أحلى من الصدفة القرية دي..

= المهم الرسالة تكون تامة الدقة وبلا نقطة شاردة دا كل موضوع عنايتي..

--- انت تلميذنا النزيه انا اللي باقول مش انت ان نظرية الحتمية هتفتح عليك خير كتير تستاهله..

 انا عارفك مش هتسيب لنظريو الصدفة ذرة احتجاج.. انطلق يا فارس الحتمية ولتسقط الصدفة..

 

أتم "نابه" كل شئ.. عاد للرد على كل حججه لإثبات "الصدفة".. لتفنيد كل حججه لتخطئة "الحتمية"..

انتهى لنتيجته التي يتحدى بها العالمين:

الحتمية حق وليس ثمة شئ بالصدفة قط..

وكان ينقصه أن يقول "ولو فيه راجل شايف غير كدة يطلع لي"..

 

ودخل يوم المناقشة مزهواً زهو شباب العلماء باكتشافاتهم التامة الإتقان..

وتفاجأ بوجود جمهور لم يعرفه ولا توقعه.. فسر له أستاذه أن جماعة الحتمية تنادوا بظهور بحث جامعيّ فذ يحطم "الصدفة" ويثبت "الحتمية"، فما كان منهم إلا التجمع لمناصرته والتعرف على صاحبه..

وجد "نابه" نفسه واقفاً فوق بحث علميّ فلسفيّ جبّار يدفع ثمن اتلعب فيه.. ففوق المجد العلميّ مجد الحق والخير والجمال في ذاته فإنه أتى له بفريق كامل من الناشطين في الحياة والمجتمع، ومعهم أساتذة من أعلام الفلسفة الحتمية في العالم أتوا بدعوات من أولئك المستجدين على معارفه..

وفوق الكل أتى بروفسور "جاك" فكاتمل نصاب عظيم.. وقف أمامه "نابه" لا تكاد الأرض تلمسه..

لقد أنجز..

تحيا الحتمية..

 

بعد المناقشة والتصفيق وقف بجوار صف من نسخ بحثه يهدي منها لمن يصافحونه..

وقعت عينه على غلاف أحد النسخ على شئ ارتاعه.. هناك نقطة ناقصة في طبعة الغلاف..

هناك نقطة ناقصة.. ارتاع..

البحث كامل كل شئ كامل متقن بلا نقطة تائهة ولا فالتة.. فكيف لم ينتبه لهذه النقطة غير التامة الظهور في الطباعة؟

لا لا يمكن لبحثه الأثير الذي أعاد العمل فيه قبل مناقشته بشهر الذي اتخذ قراره الأجرأ بإعادته،

بعدما وقع له كتاب الحتمية بالصدفة ليثبت الحتمية إثباتاً استدعى كل أهلها للوقوف والتصفيق له من حيث لم يكن يعرفهم أصلاً..

لا لا لا.. لا يمكن أن تكون هناك لا تزال نقطة تائهة في بحثي غير المسبوق عن تحطيم "الصدفة" ولو كانت خطئاً مطبعياً..

وأمسك بالنسخة بيد مرتعشة..

 

فيما هو مرتعد أتاه صوت أحد المهنئين:

---- عمل عظيم يا أستاذ نابه.. ولا نقطة فلتت منك ولا نقطة.. كل شئ حتمى بلا صدفة.......

أعطاه النسخة التي بيده، فظهرت النقطة التائهة.. لم يكن ثمة إشكال إنما كان هناك ذرة غبار من لون الغلاف غطت على النقطة..

---- ....... بحث بلا نقطة ناقصة يا أستاذنا، لا عزاء لنظرية الصدفة بعده ابداً.. لا صدفة بعد اليوم هاهاها مبروك..

سمع نابه بقية كلام المهنئ وهو يستعيد ارتياحه بأن النقطة ظهرت ولم تكن تائهة منه..

 

ارتاح نابه وامتلأ بالاطمنان العلميّ والنفسيّ،

ولكن في مستوى ما من عقله الباطن بقي مقطع من كلمات ارتعابه السالفة يلح عليه:

"لا تزال هناك نقطة تائهة في جسم البحث... بحثي عن تحطيم الصدفة"!؟!


إجابة المجنون التي عصفت بسؤال العاقل (مجموعة "خداع بصر"- 16)


إجابة المجنون

التي عصفت بسؤال العاقل !!

 

.

الشخص الرئيس في هذه القصة إذا ما وصفه واحد فوصفه أنه "سيد العاقلين"..

ربنا "مكمله بعقله" كما اشتهر..  أو "عقلاني" كما يدعوه المتحذلقون..

وأخيراً "دماغه يزن بلداً" كما صار يُقال عليه في عمله..

لا يصنع شيئاً إلا بعدما يحسب جدواه.. لا يضع قدمه في طريق إلا بعدما يعلم بآخره..

لا يدخل إلا وهو يملك المخرج..

لم يدخن فالتدخين عمل غير العقلاء.. لم يشرب خمراً فالخمر يُذهِب الوعي والوعي هو أوكسجين العقل..

ولم يكن عقله زينة فقط بل كان مجلبة للربح..

ناجح في عمله موثوق به في وظيفته بعدما ختم دراسته للإدارة بتفوق ملحوظ،

ولم يكن ذلك لكفاءة وصبر على المذاكرة كحال المتفوقين ولكن لأنه اختار تخصصه الدراسي بالعقل..

اختار ما يسهل عليه استيعابه ويُتاح له إنجازه،

ويعتمد في تقدمه في سيرته المهنية فيه على علاقات المصالح التي هي صنو للعقل..

حتى يقولون على العاقل إنه يعرف مصلحته ويقولون على العارف لمصلحته إنه عاقل..

 

عقل عقل عقل.. دماغ يزن بلد هو دماغ هذا المدير العاقل..

لا غرابة أن شخص القصة هذا امتلأ بالزهو والتيه والخيلاء والغرور والصلف والعجرفة بعقله،

حتى عجزت القواميس عن ملاحقة وصف علاقته بعقله..

ولم لا؟ وهو يزينه بين الناس ويملأ حساباته بالأرقام،

ولولا أنه عاقل لملأ جيوبه بالمال ولكن عقله يوجهه لناحية أرقام الحسابات البنكية ويمنعه من حشو جيوبه بأوراق النقد لغير علة..

 

ومع تزايد نجاحه الرتيب تزايدت منغصات البيت من معاندة امرأته..

ولكن هكذا النساء فاقدات للعقل ولم يكن لمثله من العقلانيين أن يتزوج..

ولكن هل يوفر جهداً لاسترضاء امرأة حتى لو كانت امرأته؟

بطبيعته التفت للأمور التي لها جدوى والتي يمكن استثمار عقله فيها،

لا وقت لاسترضاء نزق النساء ولا جدوى حتى من معرفة علة ضيقها فدائماً ما ستنجح في الدفع بعلل متضاربة..

وبقي على هذا الحال حتى الآن لسنوات.. وراءه ما يشغله عن هكذا تفاهات من عمل وسمعة...

بل الآن تنفتح مجالات جديدة مثيرة دقيقة تحتاج لكل الركزان والرجحان اللذان هو سيدهما باعتباره سيد العقل.....

 

فمن مجالب عقله له أنه حظي بدعوة لاعتلاء منصة مؤتمر "إعداد القادة" في أحد مهرجانات الحياة..

وبذات عقله أدرك اتجاه المؤتمر أنه للدعاية للحزب الجديد الذي يكتسح السياسة في عصره،

والذي يعلم بفطنته العاقلة أو عقله الفطن أنه لن يستديم له الحال..

فأعدّ كلمة محسوبة تجعله مقبولاً من الاتجاه الجديد،

ولكنها لا تجعله مرفوضاً من الاتجاه "الأجدّ" الذي قد يعصف بالجديد ويجعله قديماً..

وبالمرة لقد جعل الكلمة فرصة لإعلان انتصاره الشخصيّ..

سيجعل الكلمة عن "العقل" وكيفية استعماله..

لقد حسده معارفه على دعوته لهذا المؤتمر ولاسيما إعطائه فرصة الكلمة الرئيسة به!!

ولقد عدّ هو هذا هو نقطة الانتصار العظمى لعقله..

فالحال السياسيّ مشحون وممتلئ بتنغيص الفرقاء بعضهم على بعض،

ولم يحظ شئ واحد بالقبول من الجميع ولا باتفاق الشهادة الواحدة على أي شئ واحد إلا هو.. الجميع أقرّ له برجحان العقل..

لذلك كانت فكرته أنه سيكرِّس هذه اللقطة النادرة بمحاضرته عن العقل ليثبت ضمناً،

أو في الواقع صريحاً وإن لم يُصرِّح باللفظ، أنه هو سيد العقل في زمنه ..

 

في طريقه للمؤتمر ارتدى حلة لامعة لا أقل منها من أرباح عقله وفي سيارة فارهة اقتناها بعقله،

وهو في طريقه كان اليوم عاصفاً..

أحسن عمله وأبدع في محاضرته وتلقى ركام التهاني والتقريظ، ولكن كلمة وسط كلمات التهنئة من رجل "مهم" لم تفت عقله..

كلمة عن زوجته قيلت له من أحد المهنئين "المهمين" القريبي الصلة ببيئة عمله أيضاً!!!

المعترك ليس سهلاً كما ظن والأسلحة المباحة فيه بلا قاعدة تحريم..

 

منذ كان المؤتمر لم ينته بعد ومنذ التقط بعض الإشارات وهو يفكر بعمق!!

 الموضوع ليس مفروشاً بورق الورد ولكن بشوكه.. ولكن لهذا خُلِق العقل..

هناك كلام وراء الكلام، وليس أفضل قرار هو الانسحاب، ولكن الانسحاب بطريقة لا تداخلها الخسائر وياحبذا ألا تضيع بها المكاسب..

إنهم يدخلون البيوت ويعرفون زملاء العمل ويحيطون بكل شئ.. الانسحاب صمتاً يفتح ثقوب التأويلات وكلها سيكون سلبياً..

الحل هو إعلان موقف الانسحاب الذي يحتاج الاعتذار بعذر صائب، وهذا هو التحدي.. ماذا يكون عذره للانسحاب؟

لن يعجز عن التفكير فموقفه قويّ وعقله أقوى.. قليل من التفكير ويعيد ضبط مسار الأمور..

 

وفي عودته كان أمر العاصفة قد اشتد جداً جداً وغام الجوء وزاد على عتمة الليل عتمة العاصفة..

وفيما يقود سيارته بتريث عائداً انفجر أحد إطارات السيارة الفارهة بفعل خازوق مدبب أطاحت به هوجاء العاصفة..

نزل الرجل بهدوء فهو لم يكن فتىً مدللاً ولا هزيلاً فشرع بجد في استبدال الإطار..

إنه حسن الحظ بلا شك، هكذا فكّر،

فصحيح أن الحلة الفاخرة ستتسخ ولكنه في طريق العودة وفي جوهر تعتيم ظلام الليل الساتر فلا ضير كبير في الأمر..

بدأ بفك الإطار التالف واحال مساميره إلى "عتلة" وجدها قائمة على الرصيف القريب،

وأتى بالإطار البديل وهو يتحسس طريقه في ضوء بطارية احتياطية كان يحفظها في السيارة،

بحسابات عقله الفذّ الذي يتحوذط لكل شئ..

ولكن،،،،،،

في طريقه للمسامير وإذ هو يوجه الضوء تجاه العتلة التي رصّ مسامير غطار سيارته الفارهة

التي اقتناها بفضل من أفضال عقله عليه، في طريقه للمسامير والضوء الضئيل يعمل بالكاد عليها وحدها،

عثر في خازوق آخر في الطريق فحاول حفظ توازنه بالإمساك بالعتلة التي عليها المسامير فاهتزت تلك وانتشكت المسامير..

الضوء الخافت معه صار يدور في قارعة الطريق بحثاً عنها فلم يجدها،

ولكنه وجد بالوعة مفتوحة وعبثاً حاول غير مرة حتى انتهى للاقتناع أنه إما ذهبت المسامير في البالوعة،

أو اختبأت خلف عوارض الطريق الذي زادتها العاصفة خراباً..

 

ماذا يفعل سيد العقل؟

لا يدري كيف يحل الموقف.. لا أحد لا حلّ لا فرصة للبقاء خارج السيارة ولا فرصة للبقاء داخلها مع هذه العاصفة اللعينة..

جل ببصره كأي عاقل عادي في المباني المجاورة لعله يجد ملجأً فوجد أن الطريق كله ليس به إلا قصراً يبدو قديماً ولا يسر الناظر..

اقترب منه فوجد على بابه لافتة مل نحاسها من النقش المكحفور فيها والذي كان يقول:

"بيمارستان مستشفى الامراض العقلية"

 

هاهاها.. ضحك سيد العقلاء.. فلقد قادته عوارض الدهر إلى ان يحتمي بمقر المجانين..

ولكن لا مناص مما ليس منه مناص.. دفع الباب فوجده مربوطاً بسلسلة طويلة لا تمنع من حركته لمساحة ليست بقليلة..

ودلف من المساحة الواسعة بين ناحيتي الباب بعدما انحنى لأسفل حتى يعتبر من تحت السلسلة..

وسار في حديقة قصر الـ"مورستان" بضوء بطاريته حتى وصل لبوابة المبني الداخليّ وطرقه..

بعد قليل فتح له أحدهم وليس إلا بعد قليل من التفاهم حتى أدخله.. فلا إشكال ولا خطر..

الرجل مهم ومعه ما يفيد أهميته والظرف خاص والعاصفة خطيرة ولا مانع من ايتضافته حتى الصباح حتى يجد وسيلة للنجدة..

 

وما كان على الحارس إزاء إلحاح الضيف وهيبة سيمائه ولهجة ثقته إلا أنه أيقظ الطبيب المناوب

والذي سمح له بالدخول وعرض عليه البيات على أريكة ليست متعبة نوعاً في ردهة واسعة

ولكن حذره أن المجانين ليسو محبوسين في غرف مغلقة وقد يخرج بعضهم ليلاً ليسير في أرجاء الردهة..

وتمدد رجل العقل على أريكة مستشفى المجانين، وهو يتعجب من هذه المفارقة..

إنه الآن بين كل من هم عكسه، وما هو عكس ما يتمتع به من عقل إلا الجنون؟

وانتابته رجفة حين تذكر أن الجنون مرض معدٍ،

ولكنه ابتسم بسخرية من نفسه فهو لا ينوي أن يقيم في العنابر..

 

ساعة مملة أو نحوها فشل في النوم فيها ظهر رجل يسير في الردهة المؤدية للصالة التي يجلس فيها رجل العقل ويحاول النوم عبثاً..

في الملل يكون أي شئ متحرك بمثابة ليمونة في بلد يتفشى فيها القرف..

تحرّك بصر رجل العقل مع ساكن مستشفى المجانين المتحرك أمامه وتلاقت أعينهم عبر الضوء الخافت المتاح،

فكانت كأنها قوة جذب أوصلت ساكن المستشفى لضيفها..

 

بادر رجل العقل بالكلام، وكيف لا وهو المدير العاقل الذي بيده مقاليد إدارة دفة أي لقاء:

 

--- عفواً ازعجتكم بزيارتي.. حضرتك طبيب هنا؟

= حضرتك الضيف أنت تقول من أنت أولاً هكذا تجري الأمور..

--- كلام عاقل.. أنا فلان الفلاني.. أعمل مديراً بمؤسسة كذا..

 كلامك طيب تقول إن كلامي عاقل.. أي عقل يا ضيف هل تعلم أين أنت هنا؟

--- أعلم نعم (قالها بابتسامة مبتورة).. والواحد يقدر أن عملكم متعب جداً.. ربنا يعينكم يا دكتُر..

= دكتر دكتر!! أنت تجاملني لأنك تخجل أن تدعوني ممرضاً.. أليس كذلك؟

--- هاهاها لا أبداً.. الممرض الخبرة يفوق الطبيب.. عفواً يا "باشمتمرجي"

= هل قلت لك إني ممرض؟

 

 

انعقد لسان رجل العقل والإدارة مرة ثانية وبدأ يشك أنه يكلم مجنوناً حقيقياً رغم غرابة ذلك،

ووجد أن الأصوب هو التنصل من محاولة معرفة هوية رفيقه..

وقرر أن يتحاشى استعمال أي لقب أو صفة.. هذا أريح..

ليلة وآخرها صبح ويرحل من هذا المأزق الاضطراريّ العارض..

 

ساد الصمت كما لا يليق بين اثنين ينفردان في قاعة كبيرة في ظلمة الليل تحت وقع صوت العاصفة..

بدا لنزيل المستشفى أنه "ذوق" ولم يرضّ بحالة الحرج التي فيها ضيف المستشفى فبادر هو ببدء الحديث:

 = حرتك ضيفنا أرجو أن يكون مقامك هنا مريحاً لحين حل مشكلتك..

--- مشكلة طارئة بسيطة محلولة غداً لا إشكال..

= صحيح.. أي مشكلة بسيطة طالما لست رب أسرة وتحمل هم امراة وأولاد او حتى امرأة فقط..

 

شعر رجل العقل أن حواره لا ضير منه بل التمس به بعض الطرافة المريحة فقرر عدم صد نزيل المستشفى،

إنه ليس منافساً في شئ والتنفيس معه لا يخلو من فائدة فاجاب متباسطاً:

--- هاهاها مشاكل الأسرة تلك في كل مكان ولا تستوجب القلق.. تلك مشاكل يلقيها العقلاء خلف ظهورهم..

= وانت مثلهم؟

--- يقيناً.. لا وقت عندي لتفاهات مشاكل النساء، كل مشاكل الواحدة منهن سيان،

لا مشكلة أصلاً مجرد غموض تافه شعاره قولها "لو كنت تهتم كنت عرفت من نفسك"،

تلك مشاكل لا وقت لها عندي وألقيها بجدارة خلف ظهري..

= تماماً.. تلك هي رأس المشكلة..

اجبرت لغة نزيل المستشفى رجل العقل على الاستفاقة ووجد نفسه يقول بجدية كمن يشغف بالتفسير:

--- ماذا تقول؟

= عندما تلقي المشكلة خلف ظهرك فقدت أمانك وصار ظهرك بغير حماية فيما أنت تواجه المشاكل القائمة أمام صدرك وبطنك..

هل هذا عقل؟

--- دعنا من هذا السفه النسويّ.. المشاكل الواجبة العناية ليست بقليلة..

هل تعلم أني عائد تواً من داهبة كبيرة ورطني البعض فيها ولازلت أفكر في عذر لا أخسر به لأتنصّل من هكذا ورطة؟

= ....

 

عندما وصل رجل العقل لهذه النقطة من الحوار وجد أن صمت الرجل النزيل كأنما أجبره على الاسترسال في تفسير أمره،

إذ لم يحتمل أن يظهر بصورة الاستعلاء إزاء ذوق ولباقة محاوره.... فأكمل شارحاً باختصار:

--- القصة دون إزعاجك بالتفاصيل أني اندمجت في عمل واعد لخدمة الوطن،

 ولكن الحروب الشخصية فيه أكثر من الحزبية التي ليست هي أصلاً بهينة..

والآن أنا في موقف أظن الاوفق فيه ان أتوقف أو أتراجع ولكن بغير إتاحة أية فرصة لأي تأويل مصطنع أو تفسير مغرض..

 

تمتم رجل مستشفى المجانين بنبرة جادة هادئة ملؤها التحرّي، كأنما عالم يفحص عيّنة:

= وماذا تنوي ان تعمل لتقلل الخسائر المحتملة في هذا الموقف الدقيق؟

 

تحول رجل العقل إلى نبرة تباهٍ شعر بغرابتها أنها في تحدٍ لرجل لا يتبين بعد أمجنون هو أم ممرض مجانين،

ولكنه وجدها تلقائية داخله وهو يجيب محاوره نزيل مستشفى المجانين على أي صفةٍ كان:

--- حلها بسيط.. سأخلو لنفسي قليلاً وأجد حلاً لا شك يعظم المكاسب وليس فقط يقلل الخسائر،

فأنا حقيق بذلك وقادر عليه.. أفكر أن أدعو لعمل جديد أجمع له فريقاً جديداً مع طرح شعار جديد يقلب الطاولة على الجميع..

هذا أجدى الحلول..

 

انطلق رجل المستشفى في جملة واحدة كثف فيها حكمته الباطنة في غلاف من نبرة الجنون الظاهر، كأنما عن عمد وعن اعتياد المدرس مع تلاميذ لا يتعلمون من المرة الأولى:

= تقول "أجدى"؟ أيهما أجدى حين تواجه مشكلة؟ أن تزيد زحام أرصدتك برصيد جديد يعقد مشكلة إدارة الأرصدة وكل رصيد جديد يدخل بمشاكل جديدة؟ أم تعيد توزيعها فتحل مشاكل بغزاحة ؤصيد من مكان غير مناسب له وتحل مشاكل بوضع الرصيد في مكان يحتاجه وكله مكسب؟! فبدلاً من أن يكون الشئ سبب لمشكلتين ثلاثة فتضيف عليه شيئاً يجعلهما خمسة مشاكل أو ستة حرّك الأشياء المتاحة وحل المشاكل بتحريك الشئ بدلاً من تركه قابعاً وإضافة جديد عليه.. أليس كذلك؟

 

انتهى رجل المستشفى من جملته في نفس واحد بطلاقة، فاجابه رحل العقل أسير العاصفة:

--- هه؟

= أفسّر باللغة البلديّة:

تأخذ من طاقية هذا وتلبس ذاك أم تشتري طواقي جديدة في حين أن لديك مشكلة وقت ومشكلة تمويل ومشكلة تخزين للطواقي؟

--- فليكن.. أعيد توزيع الارصدة ولكن أين الأرصدة التي أوزعها لأحل مشكلة هذه الورطة؟

= كنا فيها منذ قليل..

مشكلتك مع زوجتك أياً كانت ودون ان أعرفها تحل مشكلتك مع رفاقك في العمل والمعترك السياسي دون أن أعرفها بدورها..

--- كيف؟

= أياً كانت علل غضب زوجتك العزيزة التي تصفها بأنها كلها سيان،

هل تظن أنها تمانع أن تختر لها المشكلة طالما ستقدم معها حلاً مجانياً تكسب هي منه؟

انفرجت أسارير رجل العقل وسأل بترقب:

--- بدأت أفهمك.. لا سترحب ولكن أي مشكلة وأي حل أقدمه لها؟

= قل انك كنت غبياً والىن فهمتها وفهمت أن مزيد مشاغلك يقلقها وانك قررت التضحية بمشاغلك الجديدة لأجلها..

لن تحاول إنكار أن تلك كانت مشكلتها وإلا ستفقد طواعيةً مكسبها المجانيّ بتنازلك لأجل خاطرها..

--- عظيم ثم ماذا؟

= ثم تكون حللت مشكلتك الثانية.. معك الآن عذر يحفظ كرامتك في الانسحاب.. ويكتم محاولات التأويلات السياسية،

أو على الأقل يخفضها ويضمن لك وضع خصومك موضع الأنذال كارهي الهناءة الأسرية،

وهكذا تصدر مشكلتك الأسرية لبيوتهم هم حين يفكرون في تاويل موقفك "النبيل" من زوجتك..

بل ويزيد لك مكاسب فأنت الآن لك الحق في بناء الكثير على موقفك الأسريّ النبيل،

حين تتضح أمور سير المعترك وتحدد نقطتك الجديدة فيه.. كل ما عليك أن تطيب خاطر امرأتك،

وتبدأ الترويج الهادئ أمام كل من عرفوا أو تظن انهم يعرفون بمشاكل بيتك..

ودعهم هم يخطئنوك ويمسكون عليك كقرارك كانه خطأ وهذا كفيل بنشره دون مظنة أنك تنسحب فشلاً..

 

--- مذهل.. مذهل يا رجل.. سأفعل هذا بمجرد حل مشكلة السيارة المتعطلة الغبية تلك..

= ما تلك أيضاً؟

--- أبداً.. سيارتي انفجرت إحدى إطاراتها.. وعندما شرعت في تغييرها طارت مسامير الغطار الأربعة في العاصفة..

 

لمعت عينا رجل المستشفى بنظرة تأنيب لضيف المستشفى الذي اجب نظرته تلك بسؤال:

--- لا تقل لي إن لديك حلاً لهذا..

= لديك أنت..

--- كل مرة تتكلم تأتي بجديد.. هات ما عندك

= لا جديد. ما سبق أن حللت به مشكلتيك السابقتين.. توزيع الأرصدة..

--- كيف؟

= الا يمكن لثلاثة مسامير ان تحمل ما تثبته أربعة؟

اخلع مسماراً من كل إطار من المثبتة يتوفر لك ثلاثة مسامير تثبت بها الإطار الاحتياطيّ،

وترجع لبيتك وتنتظر حتى يفتح أول ميكانيكيّ ورشته وتدعوه لإضافة المسامير الناقصة مع لإطار جديد..

 --- انت مدهش عبقري أكيد هناك سر لوجودك في مستشفى المجانين.. لا أقل من أن أعرف لماذا أنت هنا؟

 

وكأنما من عمق جوف الأرض النقية المتعبة من تراكم طبقات الأرض الصلفاء العجفاء من الفهم والحس فوقها،

كأنما من حميم جوف تلك الأرض اندلعت إجابة الرجل كبركان متفجر يطيح بكل ما أدخره من غضب بكل ما فوقه من غباوة،

ويهب لفحها الحارق الخارق في وجه العاقل وسؤاله:

 أنا في مستشفى المجانين لأنني مجنون لا غبيّ.

 


تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.