الأربعاء، 3 مارس 2021

بعيداً عن الستر (مجموعة "خداع بصر" - 3)

 

بعيداً عن الستر

 

= الستر أصلاً دا المشكلة اللي انا هربان منها بالسفر....

ماهواش المكسب اللي الواحد بيدور عليه ولا حتى الدوا اللي بيخفف من وجع الفقر..

 

قالها وهو يهز تذكرة الطائرة التي يمسكها كمن يمسك بطوق النجاة في عاصفة لا يظهر لها نهاية..

فاجابه رفيقه الذي يظهر أنه في جلسة وداع معه:

-- يا صاحبي الستر نعمة.. إنت أول واحد يكرهه..

 

= مش فاهمني.. الستر في حد ذاته أمر طيب وعظيم..

 

-- امال مالك بس؟

 

= بافهمك إن مشكلة الستر مش في ذاته لكن في دلالته.. يعني ايه ستر؟ يعني واحد عنده حاجة مايحبش حد يشوفها..

يعني فيه حد واقف له وجارحه..

لما اسافر في بلد ماتعرفش غير الحرية والشغل ومحدش بيبص لحد يبقى مافيش احتياج هنا للستر..

 

-- "هنا" احنا يلزمنا الستر وبنحبه.

 

= "هنا" دي اللي باتكلم عليها هناك بالنسبة لك.. انا دلوقت هناك اللي بقى بالنسبة لي "هنا" في ضميري.. انا بعت "هنا" بتاعتك اللي "هنا" دي خلاص..

الستر في حالة الغربة اللي هي "هنا" بالنسبة لي و"هناك" بالنسبة لك ولا له معنى ولا له لزمة.. غير ذي موضوع يا أستاذ!

 

-- ضلِّمت المحكمة..

 

= هاا.. يوم لما افشل أواجه فشلي لوحده ماواجهمش معاه عينين الشامتين..

يوم لما انجح آخد فرحة النجاح لوحدي ماقسموش مع الحاسدين..

ساعتها يبقى مش محتاج الستر اللي هو كويس وتمام التمام لما مايكونش فيه حرية ومايكونش فيه خصوصية ومايكونش فيه ماهية.. زي "هنا" بتاعتك..

 

-- ربنا يديم نعمة الستر عالواحد..

 

= يعني تهديد مستديم بقدر ما ان الستر مستديم كدة..

 

أتى وقت الوداع..

وسافر كاره الستر وهو يشعر بالظفر..

كان ذهنه يعمل كجهاز تكييف متكامل يشفط الرطوبة والأتربة ويبخ الهواء اللطيف..

وكانت رطوبته وترابه هو ذكريات حاجته للستر طيلة مقامه في وطنه... وأما هواءه الطيف فتصوراته لمستقبل الحرية والمكسب،

وعدم الخوف من الحاجة للستر إن لم يتحقق المكسب..

 

شئ واحد من الماضي بقي عالقاً في ذاكرته رغماً عن جهاز الطرد المركزيّ الذي أعمله فيها....

شئ واحد... هو حواره الأخير مع صاحبه وكلمته عن الستر..

لاشك أنه فيلسوف كبير ولكن حتى هذا عليه بطرده من ذهنه فلا موضع للفلسفة مع بلاد الحرية والعمل والكسب وعدم الحاجة للستر..

 

ولكن لم يمكنه ذلك.. فبراعة دفاعه عن وجهة نظره التي أعجزت صاحبه عن الرد المنطقيّ بقيت متصدرة في ذهنه..

وتابع فكرته:

طالما كانوا يقولون "ربنا يسترها عليك"..

وحينما يسألون الفقير الراضي لا يقول، وبصدق، إلا: "مستورة"..

ما الذي أحوج الجميع للستر حتى أحبوه واعتبروه قيمة القيم والنعم؟

أليس رداءة حال نفس الناس الطالبة للستر؟

لو كان الجميع في حالهم وفي طيب الأخلاق،

 أكان واحد يخجل من فضح أمره ما لم تكن فيه جريمة- وليس لهذه يُمتَدَح الستر فيما يظن؟!؟

 

الستر نعمة هو لا ينكر كونه هكذا، ولكن لماذا هو نعمة؟ أليس لأنه يزيل نقمة مصائب الحسد والحقد والعوز والنقص وكل ما إلى تلك المصائب البشرية!!!!

ومن هنا فالحرية هي الحل..

الحرية بمعنى مطلق الحرية لا فقط حرية الحركة ولكن حرية النفس من الخوف من هجمات العيون والقلوب والمطامع..

وهو ذاهب إلى حيث يستطيع أن يقاضي من يكلمه دون إذن منه..

حيث يستطيع ان يسير في الشارع عارياً غير خجل من أحد،

لأنه لا يعرف "أحد" ذاك،

أو حتى إن كان يعرفه فللمعرفة حدود ولـ"أحد" احترام لنفس القانون..

 

فإذاً كان على حق.. ترك المرض بدوائه..

ترك القلق بطمأنينته..

لا حاجة للحل طالما لا مشكلة..

خسارة أن فاته أن يقول هذين "البقين" لرفيقه، فبهما من حسم الأمر ما كان ليقنع رفيقه بنظريته.. ولكنه هو مفتنع وسيذهب لآخر الطريق لن يتوقف في أي محظة يكون معروفاً فيها إلا لزوم الترازنيت المؤقت جداً..

 

--- حضرتك هتكمل ولا ترانزيت؟

 

أتاه السؤال بنبرة عارضة من جاره في الطائرة..

نظر إليه للمرة الأولى فرآه رجلاً تبدو عليه الحكمة والطيبة..

ولكن لم يبدُ انه كان يتكلم أصلاً.. لقد توهّم السؤال على الأرجح..

التقت نظراتهما فوجب عليه أن يرد بشئ، مثل إلى أين هو ذاهب ولماذا،

فقال، ليفتتح كلامه، مُغَلّفاً بشعوره بالفوز:

= ذاهب يا أستاذ إلى حيث عدم المشاكل..

 

--- مشاكل ايه؟

 

= المشاكل المعروفة..

 

--- عدم المشاكل المعروفة مشاكل غير معروفة.

 

يبدو أن جاره في المقعد أحكم منه وأقدر على فنون الفلسفة..

وليست تلك هي القضية..

فلقد نغزته إجابة جار السفر بصورة غريبة..

صورة المخدة التي كان يقلبها وقت نومه ليتخلص من حرارة وجهها الظاهر فيجد في وجهها الآخر حشرات ترعى..

 

ولكن ترى أي مشاكل يمكن أن تفوق مشكلة الناس "الحشريين"؟ الوحدة خير من رفيق السوء..

فيم سيحتاج آخرين؟

نظر تجاه جاره في الطائرة ليحاول ان يصل معه إلى حل وسط في الجدلية فلم يجده.. أين ذهب؟ لعل المضيفة قد أرشدته لمقعد آخر، او لعله ذهب لدورة المياه أو لعله كان يتخيّله..

ووجد نفسه وحيداً في المقعد..

وبقيت جدليته تقلقه بغير أن يحسمها..

ظهر التوتر على وجهه من إحساسه بالهزيمة....

فشعر بالخجل أن تظهر عليه بوادر هكذا إحساس أمام المسافرين،

فأجال ببصره ليطمئن... ولكن لم يظهر أن أحداً قد شعر بتوتره.... ولا به.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق

تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.