أراهن
على ذكاء القارئ (ولا أشك أن من يقرأ لشخصي المتواضع يملك من الذكاء ما يدعم
مراهنتي عليه) في تمييز الصدق في هذه القصة..
وليست
الأسماء الوهمية هنا من باب حبكة الإيهام وإنما لفرط الصدق في القصة يلزم تحاشي
الأسماء الحقيقية..
"سنو
وايت" الواردة في العنوان هو الاسم السينمائي للممثلة "ابتهاج
بديع" وهي من هي في جيلها والجيل التالي له،
وحتى
بكور الجيل التالي للتالي والذي أتمتع بعضويته الطبيعية..
و"نادر
وجدي"، الذي سيظهر في مفاجاة الختام، شرحه شرح سابقته..
وأما
"المجنون" هو شخص هذه القصة الذي يقذف بالأسئلة ولا إجابة..
ومن
هنا أتت قصتي معه التي هي قصة جمع الإجابات..
وإذ
أوفيتُ حق العنوان في أماطة جزءً من اللثام عن شخوصه،
مع
توفير مقدمة أظنها كافية الإثارة الواجبة لشحذ شهية القارئ،
فالآن
حقيق بي أن أعود إلى سرد فصول القصة بترتيب تعرّفي، كشاهد، على فصولها التي تفيض
بتعاسة إنسان جمعت تعاسته بين وضوح قصته وسرها..
واضحة
الوجود واضحة الفداحة الأثر قصته تلك،
ولكنها
تنطوي على سر استحالت معرفته!!
وتلك
هي مأساتها التي قادتني لتسجيلها، لعل أحد القارئين يعرف السر ويشترك في كشفه
تضامناً إنسانياً مع شخص مجنون القصة أو مع سيرته إن كان قد رحل..
بداية
تعرفي عليه كانت في زمن الدراسة الثانوية حين كنت من هواة السير.. كان المجنون
دائم التواجد في الصباح الباكر على رصيف الشارع الواسع الراقي..
قوي
البنية كأنما ملامك معتزل..
يمسك
بحقيبة سامسونايت فاخرة، يرتدى بذلة وربطة عنق ليستا جديدتين،
ولكنهما
تقدران على خداع الكاميرات الرديئة وعلى غير المدققين في النظر..
غزير
الشعر رغم تجاوزه منتصف العمر.. لم أكن وقتها أعرف أن هذه يمكن أن تكون باروكة..
ولعلها رغم كل شئ ليست إلا شعره الطبيعيّ.. من يدري؟
صحيح...
كان دائم التجهم لم أره يضحك إلا في لحظة الذروة من القصة..
كان
من معالم الطريق في الموضع الذي انفذ من مسكني إليه..
وكان
له نشاط من اثينين لا ثالث لهما يحكمهما التوقيت: في السابعة حتى قرب الثامنة يقف
في منتهى الهدوء والوقار ولكن لا تخلو وقفته من ترقب وتحفز..
في
نحو الثامنة وما بعدها يتحول نشاطه لمتابعة كل السيارات المنطلقة بسرعة بوابل من
الشتائم المنتقاة
يقذف
بها من أعماق جوفه كأنما يقصد دفعها لأبعد مدى حتى تلحق بالسيارات المشتومة..
كانت
حركة جسده تتناغم مع خط سير صوته النابع من العمق ليصل حتى أبعد المدى..
كانت
انثنائة حزعه توافق حركة وتر سهم يبغي إضفاء مزيد قوة الدفع على الشتمة الصادقة
النابعة من قناة جوفه..
اتضح
لي تمام الوضوح أن الرجل يقصد إيصال رسالة الغضب لكل من يقود سيارة..
ولقد
سبق وصفي له بأنه دائم التجهم،
فأن
كان متجهماً وهو هادئ وقور فماذا يكون وهو يمارس واجب قذف شتماته العارمة إلا
متجهماً فائراً يتحلى تجهمه بحمرة الحماس..
ولكن
لماذا كل هذا؟
ولماذا
يكون قبلاً هادئاً في الصباح المبكر ويتحول لنشاط الشتم في الصباح المتأخر؟
وضعت
السؤالين موضع النظر ولم أفلح في إجابة فورية..
صارت
ملاحظة الرجل هي دافعي للنزول للمدرسة التي ما كان أدعى لسروري من نجاحي في
الإفلات من الذهاب لها..
ولكن
تذكري لموعدي مع مشهد صديقي المجنون كان خير داعم لدفعي للنزول..
وموعد
نزولي ليس ثابتاً لعدم انتظام مواعيد نومي ولعدم ترحابي بثقل اليوم الدراسيّ..
ولكن
الصديق كان وهو غير الطالب وغير المتلزم بشئ في تمام التزامه بالوقوف مبكراً في
هدوء في الشارع وتحوله لرجل الشتم بمجرد تسارع حركة السيارات..
بتوثقي
من انتظام حال الصديق توصلت لإجابة علمية مقنعة لي..
الرجل
ليس أبلهاً وإن كان ظاهر الجنون.. إن لديه قضية مع السيارات المسرعة لديه رسالة
يريد إيصالها ولكنه رجل واعٍ اقتصاديّ التصرف..
يحسب
سلوكه حساب جدوى من الدرجة الأولى.. لو شتم منذ نزوله مبكراً سيتعب كثيراً على ربح
قليل،
ولكن
حين يؤجل بدء نشاطه العارم مع زيادة السيارات فهكذا يحقق مكسباً مكثفاً،
فالشتيمة
الواحد يقذفها على سيارة واحدة فـ"تطرطش" على ما بعدها تسمع بها
السيارات التي أفلتت من جانبها..
ولكن
إجابة السؤال فتحت سؤالاً ثانياً:
إن
كان بهذا الذكاء الاقتصاديّ والوعي في حساب الجدوى فما بقاله ينزل مبكراً؟ حين
أنزل أنا مبكراً دوماً أجده..
فما
باله ينزل ساعة كلها وقوف خالي المغنم وبغير توجيه شتم لمستحقيه حسب حكمه عليهم؟
لا
بأس.. أجبتُ سؤالاً ليُفتَح آخر يدعوني لمزيد
من النظر والمتابعة.. وإن كان هذا يقتضي مني التضحية والنزول مبكراً وهو أمر ثقيل
على النفس..
هنا انتبهت
لنقطة دالّة:
عجباً
كيف ينزل هذا الرجل وأنا المنتظم في المدرسة اتنصل؟
وهل
يستحق أمر الرجل تضحيتي بالنزول مبكراً ساعة؟ تركتها لظروفها إن وافقت دورة النوم
واليقظة عندي الساعة المبكرة،
فلأعتني بالتركيز في تفاصيل وقوف الرجل لعلي
أتوقف على سر نزوله مبكراً بغير ما يجنيه من الوقوف..
ولكن
عبثاً.. في كل مرات متابعته في الساعة المبكرة تلك لم ألحظ شيئاً دالاً ولكن لاحظت
ملاحظة خافتة..
كلما
وجد سيارة يبدو منها التهدئة في سيرها يقترب منها قليلاً حتى متى قدّر أنها ستعاود
الانطلاق تركها..
ومن
خبرة قراءة قصص اجاثا كريستي كنت أعلم أن أقل التفاصيل قد تحمل أدل الدلالات..
وضعت
هذه الملاحظة في حوض الأدلة المتوفر معي الدليل ويبقى ما يدل عليه..
حتى
حدث في مرة فارقة نوعياً أمران معاً..
الساعة
السابعة ونيِّف من الدقائق، ومعي في هذه المرة جار لي (من نفس السنة الدراسية
والمدرسة) صحبني في المشوار..
وصديقي
في موضعه..
هذه
المرة هدأت سيارة ما اقترب صديقي منها فتحولت لمتابعته بتركيز وجدته كعادته
الخافتة التي التقظتها من كثرة تركيزي معه يقترب منها بحرص،
ولكن
السيارة لم تهدأ لتعاود الانطلاق وإنما كانت تركن وتوقفت تماماً ونزل صاحبها منها
فتراجع صديقي..
آه..
ليس بالشجاعة التي يظهر عليها وهو يشتم السيارات الجامحة..
هذا
أمر جديد ولكن يزيد من غموض محاولته للاقتراب بهدوء من السيارات البطيئة السير..
لماذا، وهو يتراجع هكذا حين مواجهة صاحبها،
لا
يني يحاول الاقتراب من كل سيارة يمكنه الوصول لها؟
لفت
تعجبي وانهماكي في متابعته نظر جاري فقلت مفسراً له:
= دا
صديقي.. كل يوم اشوفه واتابعه واظنه ذكي لكن متحير في قصده ومش فاهم ايه اللي جننه
كدة من العربيات؟ دا اكتشافي على فكرة..
--
الراجل دا معروف دا مجنون ابتهاج ... ( اسمها ايه دي... جاري قال اسمها لكن انا
نسيت الاسم الوهمي الذي اخترعتُه لـ"سنو وايت" في بداية القصة)..
لمن لا
يعرف جاري.. هو يخالفني في النزعة الإنسانية فهو مغرق في المادية ولا يفكر في تأمل
تفاصيل التعساء وتقدير ما يخفونه من قيمة إنسانية،
في
حين أنه يفوقني في معرفته بحقائق الحياة ووقائع الاحداث ولم يحدث أنه أفادني بخبر
مهما بدا بعيداً عن مواضع تصديقي إلا وثبت لي بعد زمن دقة أخباره وإخباره..
(وعلى
كل حال فقد انتهت خبرتي أن معارف زملاء السنوات الإعدادية والثانوية، الذين طالما
نفرت من تفاهتهم،
قد
أثبتت في ختام المطاف وانا أسترجع الآن أنها أثقل مصداقية من كتب فلسفة مكتبة
الوالد.. شهادة حق لهم للتاريخ)..
القصد...
أكملت معه الحوار بشئ كهذا:
=
وايه اللي يخلي واحد يتجنن بـ"ابتهاج بديع" (افتكرت الاسم الوهمي) يشتم
العربيات؟ مافيش رابط موضوعي!!
--
وهو المجنون هيفكر في روابط لما اتجنن فقد تركيزه بقى يهبد..
=
ماتفقش معاك.. الجنون فنون صحيح لكن توجه المجنون لخصوصية فن جنونه يلزمه ارتباط
موضوعي احنا مانعرفوش لكن هو أكيد عارفه..
-- طب
شد في المشي هنتأخر والناظر هيتجنن لما يلاقينا متأخرين تاني..
ورحلنا
في طريقنا ولكن معي معلومتان مزيدتان..
الأولى
أنه حين يواجه سائق السيارة من قريب يبتعد مع كونه هو نفسه من كان يختلس طريقه
للوصول له..
هذه
"متناقضة" ذكرتني وقتها بنظرية "هايزنبرج" ومعادلة
"شرودنجر" عن "عدم الحتمية..
تلك
النظرية تسمح بتناقض بلا حل عن موضع الإلكترونات وسرعتها،
فبالأولى
ان يكون هناك ثمة هكذا تناقض في أحوال البشر، ولاسيما المجانين منهم..
هذه
قضية ملغزة ولكن حكاية "مجنون ابتهاج بديع" هذه لم أقتنع بها.. لم أكن
قد وثقتُ بعد في دقة أخبار جاري..
إنقضت
السنة وحال الصديق كما هو..
نفس
الأناقة الفقيرة ونفس العناية في المظهر وطريقة الوقوف وقت الهدوء ثم يقيناً نفس
حماسة قاذفات الشتم التي تعمل عبر حتجرته
وتندفع
بحركة جسده حين يميل بجذعه كأنما يحاول أن يدفع الشتمة لمدى أبعد لتصيب السيارة
المشتومة وتوقفها..
السنة
التالية تغيرت ظروف مشواري للمدرسة لأن بعض زملاء الدراسة اقترحوا استقلال باص
معين
وتكون
فرصة لنلتقي على محطته صبيحة الذهاب.. فافترقت عن صديق الجنون..
ونسيت
أمره تماماً.. حتى.......
يلزم
الآن أن أصف طبيعة الشارع الرئيس الذي تطل المدرسة عليه..
إنه
شارع مختنق المرور في جميع أوقاته.. كانما هو معادل مروريّ لاختناق الدراسة..
ويلزم
أن أصف حالتي في اليوم الدراسي، فإذ أكون في حالة صفاء في طريق الصباح،
لا
يعكره إلا فكرة أن يوم الدراسة سيبدأ فإنني أفقد كل طاقة الصفاء عبر يوم دراسيّ
غبيّ،
فأعود
من المدرسة لا يسرني شئ إلا فكرة أن يوم الدراسة قد انتهى..
وللقارئ
أن يقدر محصلة اختناق مرور الطريق زائد اختناق صبري على غباء يوم الدراسة، ليقف
على حالتي في انتظار مواصلة العودة..
ولكن
لا يعلم الإنسان ما تخبئه له أحداث الزمان..
ففي
يوم من تلك الأيام في أتعس لحظاتها لحظة أنني خرجت من المدرسة جامعاً على قلبي
اختناق يوم الدراسة مع اختناق المرور مع الحر الخانق،
كأنما
أتسع لهامش مزيد من الاختناق،
في
هكذا يوم وأنا متربص بحافلة تعيدني وجدتُ صديقي..
في شارع
لم يسبق لي قط رؤيته فيه..
ولا
يصلح له.. فالشارع غالباً سياراته متوقفة في الإشارة وحينما تنفتح الإشارة فإن
سيرها وإن كان سريعاً مما يسره،
ولكن
الشارع مزدحم وضيق والسيارات ليست بعيدة عن الرصيف ولا تفسح له وقفة مريحة في
"الأمان"..
وأنا
الذي كنت أقول عليه ذكيّاً.. ما الذي أتى به هنا؟ لعله في جولة استطلاعية،
وأظنه
إن كان كذلك بالفعل وكان يتمتع بما ظننته له من الذكاء فإنه لن يأتي هنا مرة
ثانية..
ولكن
سرعان ما انتهت نزعتي التحليلية بشأنه إذ غلبني حنين تعاطفي معه الذي أنساني حالة
الاختناق الثلاثية السالفة الشرح..
فحدقت
في وقفته وكأنني أتمم على كل ملاحظاتي السابقة فوجدته كآخر مرة من نحو سنتين..
نفس
الحقيبة التنفيذية وبعض التحسن في جودة البذلة ورباط العنق مع نفس الوقفة الجادة..
وكان
يقف قرب عامود مصابيح الإشارة وينظر لها ولم يكن وحده من ينظر للإشارة.. مع الحر والعطلة
فإن كل ركاب السيارات ينظرون لها..
كان
تحول نور الإشارة إلى الأخضر كأنه الإعلان عن النجاة من الجحيم ومغفرة الذنوب
الثقال..
أعود
لصديقي المجنون.. كان يقف بجانب الإشارة ومن ثم يقف بجانب السيارة الأولى في
الشارع كله والتي تحجز كل السيارات اللاحقة لها..
ولكنه
لم يقترب من السيارة قطّ.. كان يحيل النظر بين أن ينظر تجاه الإشارة بجدية قائد
معركة يدير رحاها بإشارته،
ثم
يحيل بصره لعمق الشارع بعيداً..
ولم
يترك نظره يسقط قط على السيارة الأقرب له المتصدرة صف السيارايت الطول المنتظر
بنفاد صبر تحول لون الإشارة للون الأخضر..
والآن
حدث كل شئ في شبه لمح البصر..
الإشارة التي طال انتظارها
تحولت للون الأخضر للسيارات.. في خطوة واسعة اقترب المجنون من السيارة القريبة
التي تبدأ صف السيارات..
نظرت مع متابعتي له فوجدت في
السيارة سيدة حسنة المظهر ومعها طفلتان واضح أنهما عائدتان من المدرسة..
فتحت السيدة شباك السيارة
للرجل الأنيق البادي الاحترام ظانة أنه يسأل عن شئ او ينبها لشئ في السيارة..
وضع المجنون راسه بهودء من
شباك السيارة واستطلع من بداخلها..
وشتم.. شتم أقبح ما سمعت من
شتائمه.. وأقواها.. شئ لا تستحقه الفاضلة التي فتحت له شباك باب سيارتها
ولا تستحقه الطفلتان اللتان
بكتا من "الخضة"..
ولكن.. كلمة حق.. استحق
المجنون أن ينجح في محاولته..
أخرج، بعد أداء مهمته
الخاطفة،رأسه بهدوء، فيما السيدة المحترمة تنظر له بوجنتين محمرتين من مزيج الخجل
والغضب..
وهنا تكشّفت خطته لي!!!!
السيدة المصدومة لا تزال تحدق
في المجنون ولكن أفاقتها من صدمتها مئات كلاكسات السيارات التي لن ترحم أحداً..
صحيح السيدة مظلومة وصحيح
المجنون تعدى عليها ولكن هذه إشارة الشارع المخنوق الخانق.. ليس هزلاً..
ليس أمامها إلا الانطلاق.. ليس
أمام السيارات التابعة التي رأت المشهد رفاهية التوقف لتأديب أو تأنيب الرجل..
ليس في خلق المارة المنتظرين
الشعبطة في أي باص او اختطاف أي تاكسي رفاهية ايقافه وأداء الواجب معه..
رأيت كل ذلك بسحبما أدرت بصري
فيه متابعاً بصر صديقي المجنون وهو ينظر للجميع نظرة الظافر الشامت..
وكان يضحك!!!!
المرة الأولى التي رأيته
يضحك.. يضحك بغير صوت متفجر كانما هو مجنون، بل يضحك بظفر ووقار..
ضحكة القائد الذي وضع الخطة
والآن يهنأ بثمار تنفيذها..
فهمت ماذا كان يعمل في هذه
الساعة،
والأخطر فهمت ماذا كان يريد في
تلك السنوات كلها..
كان قصد الرجل الذي طالما حُرِم
منه أن يوجه رسالته الغاضبة، للسر المكنون، إلى قائد سيارة عن قريب..
دونما أن يتحول الأمر عليه برد
أو توبيخ..
لم يجد ضالته في كل سيارات
الطريق الكبير فجال يبحث حتى اهتدى لطريق الاختناق المروريّ هذا..
انتقى لحظة تحول الإشارة حيث
لن يصبر أحد إلا وينطلق..
وتمم خطته.. ليس إلا هذا وإلا
فلِمَ هو يتابع الآن كل السيارات العابرة ومع كل سيارة تتكرر ضحكته اللطيفة
المنتصرة؟
لو لم تكن هذه هي خطته وتلك هي
بغيته فما باله لا يلاحق السيارات بشتائمه؟
وما سر ابلتسامة الظفر التي لا
تخلو من شماتة الي يحي بيها كل الواقفين على محطة الباص؟
لقد هدأ وضحك.. زالت نظرته
المتجهمة وغابت شتائمه رغم وفرة السيارات المستوجبة للشتم بمقتضى قانونه الملغز..
عدت
منهبراً، ومستريحاً، ومنتصراً!!!
منبهراً
ببراعة صديقي الفذة،
ومستريحاً
بارتياحه.. لعله لا يعود لوقفة الصباح المرهقة..
لعل
وقته يتحرر من التزامه بطابور الصباح الإلزامي ذاك.. ولم لا وقد ضحك.. وصل إلى
مبتغاه..
ما لم
يشبعه هذا الانتصار ويكون قد قاده بالعكس إلى الطمع في تكراره!!
ولكنى
أنّى أعلم وليس الوقوف في شارع المدرسة الغبيّ من هواياتي،
ولا
سأطيق الصبر أنا كل مرة على مراقبته في ذلك الشارع البغيض.. لأكتفي أنا بهذه
النهاية السعيدة،
راجياً
لصديقي المجنون أن يقنع بدوره بما حققه شفقةً عليه من جفاء الناس..
وفوق
الكل فقد توّج حدث هذه الظهيرة الصاعقة شعوري بالانتصار..
ليس
مرد شعوري بالانتصار هو شعور صديقي بالانتصار فقضيته ليست هي قضيتي..
قضيته
ملغزة كصندوق أسود أعرف مدخلاتها ومخرجاتها بالكاد ولا أعرف ما يدور فيها ويحول
المدخلات لمخرجات..
وأما
قضيتي فهي سبر أغوار أمره،
ولقد
ثبت بوضوح كافٍ لي كل ما اعتينتُ طيلة السنة قبل السالفة من رصده وتوقع مقاصده حول
صندوقه الأسود..
على
أن فكرة فاتتني في ميدان معركة الرجل شغلني عنها ما لم أسامح نفسي في انشغالي به..
لقد
انشغلت بخضم التحليل الذهنيّ لحال الرجل ناسياً شعور روحه في حين أن ضحكته كانت
تقول لي وللجميع:
"أنا
روح معذبة أبحث عن راحة ولا أجد في رسائلي للبشر إلا الانطلاق بسرعة السيارات في
الطريق المفتوح..
حتى
اضطررت لوضع رأسي في سيارة واقفة حتى أصل برسالتي إليهم وأسلمها فماً لأذن وعيناً
لعين،
بعد
تأمين نفسي من رد فعل غبيّ، وماذا يتوقع مجنون مثلي ممن انعدم احساسهم إلا
الغباء؟"..
انتبهت
لهذا ولم أسامح نفسي من وقتها عن فواته عني في لحظته..
وطالما
حاولت قدر طاقتي من وقتها إراحة ذكرى توهاني عن الوجه المعذب للرجل،
بخلطها
بضحكة ظفره وارتياحه التي أعلم أنها لم تكن كافية!!
سلام
وراحة لروحك المعذبة يا صديقي المجنون أدعو لك بهما،
فلقد
تعبت كثيراً ولم تجد من يرد على رسائلك بأي بادرة مشاركة إنسانية..
أرجو
أنك وانت لماح تكون قد لمحت عنايتي في متابعتك وتحسبها مشاركة لك فيما لا أعلم من
ألمك،
وإياك
أن تحسبها من باب الفضول والتسلية يا مجنون... فلست كذلك وأراهن على ذكائك أن
تصدقني..
والآن:
كل شئ
قد اتضح وكل الأسئلة قد تمتعت بإجابتها الشافية وكل تحليلي صحيح صحيح..
عدت
يوم النصر ذاك أراجع بروية ما مر بذهني من تفسير في سرعة عاصفة وقتها..
نعم..
الرجل
كان ينتظر فرصة لمواجهة راكب سيارة بشتيمته المباشرة،
ولكن
ما كان يُتاح له ذلك إلا مع سيارة تسير بهدوء لتوفر له إمكانية المواجهة،
ولكن
عليه أن يضمن ألا ينزل صاحبها لمواجهته وهذا لم يتحقق في الشارع الكبير..
ولكن
ما لا يُدرك كله لا يُترَك كله فإن لم يجد في الشارع الكبير السيارة التي تقف
ليشتم صاحبها،
شرطاً
أن تلتزم بالانطلاق دون إتاحة فرصة النزول لراكبها،
فإنه
يستطيع شتم السيارات المنطلقة كتصبيرة وهي وفيرة في الشارع الكبير..
ومثلما
كان من العناد والصبر بمكان في مواظبته على وجبات الشتم اليومي،
فإنه
كان بذات العناد لا يقبل أقل من تحقيق شهوته ولو مرة،
تلك
التي تحققت له مشهد النهاية المثيرة، مشهد الظهيرة ذاك..
أجبتُ
إذاً على كل سؤال.. كل سؤال ... ولكن يبقى سؤال، وسؤال!!
لماذا
يرتبط جنون شتم السيارات لديه بالـ"سنو وايت" الشهيرة؟ لا إجابة؟
وما
دفعه للجنون أصلاً؟ لا إجابة..
ثلاثون
عاماً قبل .....
ثلاثون
عاماً مرت قبل أن أحظى بإجابة السؤال الحائر عن علاقة المجنون بـ"ابتهاج
بديع"..
إذ في
منتدى مرح على فيسبوك افتحح جيران الزمان صفحة لحال الحي الذي كان حي سكناي وحيّ
مواقع شتم صديقي المسكين
في
شارعها الأكبر كل مرة وفي شارع المدرسة في مرة نادرة..
في
هذا المنتدى كان السؤال المطروح: من ههم وما هي المعالم المشهورة في الحي من
الزمان القديم؟
وتبارى
الرفاق في تذكر محلات طعام ودور ملاهي ولكني تذكرت ومن ثم ذكرت لهم قصة صديقي..
ولكن
كيف أسميه؟
كتبت
شيئاً كهذا:
=
مجنون "ابتهاج بديع".. اللي هاقوله دا ربما يكون خيال عندي لاني مالقتش
حد منتبه له لكن اعتبره من معالم الحي بحكم الحاحه ومثابرته..
لكن
هو كان راجل جسمه قوي وأنيق وبيقف في شارع كذا ويشتم بعزمه..
وواحد
قال لي انه مجنون ابتهاج لكن معرفش ليه كان كدة ولا هو مين ولا إن كان موجود فعلاً
وان انا مكنتش باتخبل..
فأتاني
الرد.. ليس مجرد الرد على الكومنت الذي كتبتُه ولكن الرد على السؤال المتعطل عن
الإجابة أتاني مع الرد على الكومنت.. ولا أعجب:
--
ايوة دا معروف دا كان دوبلير "نادر وجدي"..
صحيح!!
مذهل!!!!
تتجمع
كل التفاصيل لمواضع تفسيرها.. وحتى أتذكّر تفاصيل لم انتبه للعناية بها وقتها.....
جسمه
القويّ، وهيئته، ولبسه المظهريّ بقدر حاجة الكاميرا، وشعره الذي لا يجوز إلا أنه باروكة..
وعدتُ
لنفسي باستثارة التفسير المتأخر عقوداً من السنين:
ولكن
من أين أتته إشكالية "ابتهاج بديع"؟ هل لـ "نادر وجدي"
أفلاماً مشتركة معها؟ وهل فيها عملاً احتاج لدوبلير؟
استعدتُ
حسبة إشكالية صديقي محاولاً سبر أغوار مشكلته من جديد بعد عمرٍ طول..
راجعت
قائمة أفلام نادر وسنو على الإنترنت.. لا
خبرة لي بأفلام السينما هناك من يحفظونها كأسمائهم ولكن لست أنا.. وجدت ندرة
لأعمالهما معاً،ومع ذلك عثرت على فيلم حربيّ الأرجح أنه هو...
ولكن
لو كان هو فإن المسكين بقي وفيّاً لعقدة جنونه أكثر من عشرين عاماً هكذا!!
لم
يظهر من الفيلم مشهد يقنعني أنه يصيب الرجل بالجنون..
لعله
فيلم لم أعثر عليه... فماذا يكون؟
هل
كان فيلماً يلقي بنفسه من سيارة في مشهد يستدعي أن يدرك "ابتهاج بديع"
وفشل فيه؟!؟
أم
لعله نجح وتحسر أن نجاحه لا يُكافأ بأكثر من "برافو" لأنه دوبلير؟!؟
أم هل
كانت إصابة المسكين أكثر قسوة من طبائع الأمور حتى أنها أطاحت بجنونه إلى خارج فلك
الربط الموضوعيّ،
فصار
هكذا يشتم بلا وعي أي من لا يملك محاسبته وقد وجد ضالته في السيارات المسرعة التي
لن يتوقف أصحابها لمحاسبته؟
أم علّة
آخرى ولكن تم دس اسم "سنو وايت" الشهيرة كعادة البشر في الاستخاف بتفسير
معاناة غيرهم وتعظيم دور معرفتهم بالتلفيق وعلى حساب لحوم سيرة غيرهم؟!؟
شعرت
رغم كل شئ أن عناية السماء تكافئ تعاطفي الصادق معه فلا تترك أسئلتي التاريخية
بشأنه بلا إجابة...... خلا السؤال الرئيس الذي بقي لا يعرف إجابته سوى صديقي:
لماذا يئس من معاناة العقل ولجأ لراحة الجنون؟!؟!؟!؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق