السبت، 6 مارس 2021

قاضيان في البار (مجموعة "خداع بصر"- 15)

 


قاضيان.. في البار !!

 


دخل "رودريجز" "البار" بخطوة متعالية تكاد تنطق بيقينه أنه يفهم كل شئ وكل واحد..

كيف لا وقد اطلع على خفايا المطبخ الخلفيّ لأحداث الثورات وأحداث الشغب التي عصفت بالبلاد،

وكان أحد أبطالها وضحاياها وكاد يكون واحداً من قتلاها من الذين كانوا لتزين أسماءهم في ميادين البلدة عبارة "كيداس"..

 

لقد دارت أحداث الحياة معه منذ برز في غير مظاهرة لإحدى الثورات وبز رفاقه للباقته وقوة صوته وليونة حركته وطيب قسمات وجهه..

حتى قادته الأحداث غلى ما قادت إليه كل من كان مثله.... غلى المحكمة والسجن ثم المحكمة والإفراج..

وخرج ليتلقفه الزمن الذي لا يتوقف فيصل به إلى حيث استقر خط سير سيرته المهنية:

خبير استراتيجي من ضيوف محطات التليفزيون والراديو المحلية..

كان يكره تسميته بالناشط السياسي أولاً ويرى أن هذا "حبس في لقب" لتسهيل "شيطنة" كافّة محابيسه بشيطنة اللقب،

ولكنه لا يكره الآن لقب "خبير ستراتيجي" فوق أنه إما هذا اللقب أو لا فرصة لاستضافته في البرامج التي ليس فقط تطلبه،

ولكنها تطلب بالأساس "خبير ستراتيجي" فإما أن يكون هو "خبير ستراتيجي" أو لا يكون ضيفاً على الشاشات..

 

وهو إنسان نقي من داخله وصادق من خارجه، وثوريّ بحق مثله الأعلى عم الثوار جيفارا،

وفوق كل شئ فهو موقن أنه يفهم كل ما حدث كمثلما لم يفهم أحد من رفاقه..

وهو صادق مع نفسه في مظنته تلك..

ونقاؤه الإنسانيّ جعله يحتفظ باحترام جم لبعض من عبروا به في السنوات الملتهبة مقابل احتقار هائل لآخرين..

وطبيعته التي لا تخلو من حساسية تجعل تقديراته تلك ظاهرة في نبرته وعلى سحنته متى استدعاها داعٍ..

 

ولقد استدعاها داعيان في "البار"!!

 

ليس هو "بار" بالمعنى المعروف في الأفلام الأبيض والأسود،

ولكنه كافيه غالِ في فندق فخم، يتسمى "بار" من حيث طبعه الكلاسيكيّ وتوفر المشروبات الكحولية به..

ولكنه موضع راقٍ لا يرتاده إلا شخصيات المجتمع العامة وعلية القوم..

 

والرجل دخله ليقضي بعض مقابلاته مع بعض رفاق مرحلته الجديدة في مسيرته المضطربة..

ولكنه رأى فيه ما لم يتوقع رؤيتهما، ولا توقع بالاكثر رؤيتهما معاً..

 

شخصان وقورا السمت مهيبا الزيّ متقدما العمر نوعاً، يجلسان بهدوء معاً كأنهما يحتميان ببعضيهما من تطفل واحد من "عامة البشر" عليهما..

تعرف "رودريجز" فيهما على "السيد راموس" والآخر لعله "السيد لورانزو"..

الأول هو القاضي الذي حكم بسجنه عشرين سنة، كأنما ليقضي على حياته تماماً في غياعب السجن،

وبعد محكمة تعمد إطالة إجراءاتها حتى يطول عذابه في الترحيل بين المحكمة والسجن،

بل عاد ليعطل إطلاق سراحه بعد قبول النقض عندما حكم عليه بالحبس ستة شهور في قضية أخرى،

وهكذا تعطّل خروجه رغم قبول النقض،

ومع ذلك فقد ارتد صنيع القاضي الظالم ضد قصده لأن قسوة الحكم عجّل من دور القضية في النقض..

والثاني هو الذي حكم ببرائته بعد النقض، ولم يطل مقامه في المحكمة، على عكس المعتاد،

بل أصدر حكم البراءة بعد أسابيع وهو زمن قياسيّ بالغ الرحمة بمعايير ذلك الزمان وذلك المكان،

وكانت شهور سبعة قد مرت منذ الحكم الأول فشملت بالتالي حكم "الستة الشهور"،

وهكذا خرج "رودريجز" فور النطق بالحكم!! رغماً عن أحكام القاضي الأول!!

 

كيف لا ينصب "رودريجز" من "لورانزو" عكساً عكاساً لـ "راموس"؟ "لورانزو" نصفه وزاد فأعفاه من عذاب وقت المحاكمة،

في حين أن "راموس" ظلمه مرتين وتعمد إطالة المحكمة ليزيد عذابه..

ليس أكثر لديه من احتقاره وبغضته للأول إلا احترامه وتبجيله للثاني..

 

والآن رآهما معاً فاستدعى مرآهما كل مشاعره فظهرت مختلطة على وجهه..

وتعجب من رؤيتهما معاً، ولكنه قال في نفسه ملتمساً الأعذار للقاضي المبجل لديه،

إنهما مهنة واحدة ولها حساسيتها ولا يمكن أن يلتقيا صدفة مثلاً ويتحاشى الواحد منهم الجلوس مع الآخر..

ثم هي فرصة نادرة.. سيُسمِع الأول رأيه فيه دون أن يبادره بالكلام.. سيبلغه به ببلاغته التليفزيونية المعهودة..

تقدم لهما وتجاهل الأول وانحنى أمام الثاني انحناءً صادقاً وهو يضرب له تعظيم سلام ويقول وهو يمد يده:

= سعادة المستشار فلان..... من دواعي سروري رؤيا سعادتكم يا صاحب الشرف بحق الكلمة لا بحكم اللقب..

يحرجني مديحكم فالقاضي لا يُمدَح لكن لعل الزمن الردئ هو ما أوجب

شكَر الأمين على أمانته،

واحترام القاضي على شجاعته ونزاهته..

وإنه ليُضفي الشرف ليدي ان تصافح يدكم يا صاحب الشرف..

 

تكلم بكل هذا وهو يرمي الآخر الذي قضى بسجنه وحبسه بنظرات حاول أن يجمع فيها الاحتقار مع الغيظ..

بالغ في نبرة احترامه كأنما يخصم بمبالغته فيها من رصيد الآخر..

انتبه أنه لم يعهد في نفسه قبلاً مهارات نسوة الأزقة الرخيصات في "رمي الكلام"..

 

وبالوقار المعهود وبحكم المهنة هز القاضي الممدوح رأسه وصافح الرجل وربت على يده بعطف..

 

انصرف "رودريجز" متعمداً التركيز في ضبط خطواته ليختم على رسالته الناقمة على "راموس"،

وسار لحاله وقد شعر بأنه أوصل رسالة الحق والخير والجمال والوثاب والعقاب لمستحقيها سلباً وإيجاباً..

 

الآن مسرح القصة قد انحصر فيه القاضيان معاً..

 

نظر القاضيان لبعضيهما وهزّا رأسيهما معاً بتؤدة الفاهمين قبل ان يقول "لورانزو" لـ"راموس" وهو يهم بالانصراف:

-- حظك أيها الزميل الجليل.. يراك مكلفاً بأحكام الإدانة ولكنه لا يرى حكمة سياسة التكليف بأحكام البراءة!!

كم يبغضونك من أمثال هذا المسكين الذي لا يرى.. عذراً هو لا يرى..

ولكنك كنت قاسياً دون لزوم بحكم العشرين سنة.. لعلك أردت أن تسبكها فوق اللزوم..

 

ترك "لورانزو" زميله "راموس" فيما كان الأخير يكلم نفسه:

---- لست بدورك ترى كل شئ يا "لورانزو".. من يفهم أنني بالغت في حكم السجن لا لضرره،

فأنا وأنت نعلم بمصير البراءة في دورها، ولكن لكي أجعل قضيته محل استعجال في النقض....

وإلا تأخرت لأكثر من سنة أو سنتين حتى يحظى بالبراءة على يدك..

وحتى تعجل تبرئتك له في محاكمة وجيزة خاطر بحباته في شوارع كلها تصفيات جسدية..

 

وأطرق القاضي العميق "راموس" برأسه صامتاً.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق

تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.