الأربعاء، 3 مارس 2021

أوفرول أم بلوفر أم لا فرق؟ (مجموعة "خداع بصر"- 6)


"أوفرول"؟ أم "بلوفر"؟

أم لا فرق بينهما؟

 

 

 

     الرجل يموت.. يحاولون معه بكل الطرق الطبية.. آخر لحظة وعاها تركت في ذهنه صورة أصحاب معاطف بيضاء وحقن ذات إبر طويلة وخراطيم تقطر سوائل وتشفط سوائل وكلها تنتهي مغروسة في جسده، وكأن جسده محطة تنقية مياه مجاري..

 

     في غيابه عن الوعي عاد لوعيه.. هذه المرة هو في غرفة نومه.. أمام دولاب ملابسه.. يحاول خلع "أوفرول" العمل الضيق.. "الأوفرول" ضيق جداً هذه المرة.. أضيق كثيراً من المعتاد..

     عادةً ما يختنق وهو يخلعه بسبب ضيق ؤقبته أو عناد أحد الأزرار المستعصية على الفك مع تعجله في خلع "الأوفرول"،  فيختنق وهو ينزعه للخارج بجذبات خاطفة.. ولكن ليس كهذه المرة..

 

     يرى الأطباء يحاولون جذب جسده داخل "الأوفرول".. وهناك ملاك يحاول سحبه..

 

     لا.. ليس جسده هو الذي يُسحَب من "الأوفرول".. بل روحه تُسحَب.. وجسده هو "الأوفرول" نفسه..

 

     الآن الأمور اتضحت له.. ولأول مرة يجد القرار سهلاً.. ولأول مرة يتخذ قراره دون حيرة.. لقد تحالف مع الملاك.. يريد سحب روحه أسرع.. وكلما أعطى يده للملاك وتشبث بيده وسحب نفسه للخارج يأتي واحد من حملة الإبر والخراطيم ليشده للداخل..

 

     رغم عدم حيرته، ووضوح قراره إلا أنه لا يملك إملاء رأيه.. هو مستسلم ولا يملك إلا المحاولة بالرغبة.. يتوسل للملاك ألا يتوقف.. ولكنه لا يملك أن يملي إرادته.. يحاول أن يقنع أصحاب المعاطف البيضاء بالتوقف، ولكنه يشعر أن حتى مجرد التواصل بالرغبة معهم منقطع عنه..

فقط طريقه مع الملاك مفتوح لتبادل الخطاب.. ولكن مجرد خطاب إبداء رغبات..

 

     فكر أن يسأل الملاك:

     = لم لا يسحبه مرة واحدة؟

 

     ولكن وصلت لذهنه إجابة الملاك:

     @ دع هؤلاء يؤدون عملهم..

 

     = لم؟ وأنا أريد الذهاب معك؟

 

     @ هل تقدر أن تخبرهم برغبتك؟

 

     = لا.. أنا منقطع عن الوعي بالنسبة لهم

 

     @ فكم بالأكثر أنا؟ المنقطع عن عالمهم

 

     = وأنا أريد الانقطاع عنه مثلك..

    

     @ هل رأيت الجانب الآخر؟

 

     = لا.. ولكن عندما انسحب للخارج صحيح أشعر بألم ولكنه مصحوب بقوة احتمال أعظم مع سرور لم أعهده من قبل.. أما للداخل فأشعر كأنني اختنق.. أشعر بالحر.. بالعرق.. مثلما اخلع الثوب الضيق أتألم مع نسيم رطب يلطف الجسم العرقان، ولكن عندما ألبسه أختنق وأشعر بالحر مع الاختناق..

 

     @ دعهم يؤدون عملهم..

 

     = لا أريدهم أن يؤدونه..

 

     @ كل واحد ينبغي أن يؤدي عمله ولا يتدخل في عمل الآخر..

 

     = إن عملهم فيّ أنا..

 

     @ إذاً أخبرهم برفضك ان قدرت..

 

     = أليس لي حق في نفسي؟

 

     @ صاحب الأمر يتركهم ليؤدوا عملهم.. فبالأولى أنت لا تعترض..

 

     = فلمَ تسحبني للخارج من وقت لآخر طالما لا تمانع في عملهم؟

 

     @ أنا أكمل عملهم اكمالاً معكوساً.. عندما يتوقفون أبدأ أنا.. ألم تلعب تنس طاولة وتعرف كيف لا تقوم المباراة ولا تكتمل متعتها بغير الضربات المتعاكسة؟

 

      = فكيف تنتهي القصة؟

 

     @ أنت في الطريق طال الوقت أم قصر.. ولكن هل أنت متأكد أنك تفضل الجانب الآخر؟ أنت لم تره فكيف تختار؟

 

 

     ساد صمت داخليّ في المرض عندما وصل الحوار إلى هذه النقطة،

ولكن أفكاره لم تتوقف....... ولو أتيحت لأحد أجهزة هذا المحفل الخانق حولي أن تسجل أفكار هذه "الحالة" لكتبَت الآتي:

 

     &"أنا الآن مثلي عندما كنت أخلع "البلوفر" الثقيل الضيق الملتصق بجسدي المتصبب عرقاً بعد مباراة عنيفة في نهاية يوم مدرسيّ، وما أكاد أتنسم بعض الهواء الرطب المنعش لجسمي المبلل بالعرق اللزج إلا وأدرك أن كل ستراتي المنزلية وملابسي الداخلية معلقة على حبل الغسيل أو في الغسالة.. وهذا معناه أنني سأبقى عارياً لحينما تنشف إحدى قطع الملابس،أو اسرع بإعادة البلوفر بعدما تيقنت أنني لا أملك رفاهية نزعه وفضح عري جسدي لاسيما والمجهود تزلت حرارته عن جسدي والجو لم تهدأ برودته.. فأعاود صاغراً حشر نفسي في البلوفر المتعرِّق متحسراً على نسمة الهواء وأمل التمدد باسترخاء ومتردداً وأنا أعاود لبسه رغم معرفتي بعدم جدوى التردد وحسم الأمر.. سأبقى في "البلوفر" لحين أن يجهز شئ آخر..

     وتنقلني ذكريات خلع البلوفر المتسرع إلى مدروس اللغة الإنجليزية.. ولأول مرة أنتبه لمعنى الكلمات: "بلوفر" مثل "أوفرول" كلاهما يغطي كل ما تحته ويحكمه ولكنه ليس منه!! كلاهما خلعه سهل، ولكنه ليس سهلاً جداً في البرد.. وكلاهما over  بالزيادة..

     أنا الآن متردد.. متألم بالاختناق والحر والشد والجذب.. لا أعرف هل أخلع عن نفسي أم أعاود اللبس؟ ولو عرفت لا أقدر أن أنفذ اختياري.. عدم معرفة وعدم قدرة يعصرانني.. وأدوات طبيب ويد ملاك يؤرجحانني.. لا أملك أن يسمع الأطباء رأيي ولا سبيل لأقنع الملاك به.. انا في الانتظار لأني لا أملك إلا الانتظار !!!!"&

 

هكذا كان حديثه وقتها سيُكتَب لو كان لاختراع ما أن يترجم كلام الوعي الصامت.. وهنا تركنا لفترة لا يعلمها ولا نعملها منتظراً ومنتظرين مثله ما ستنتهي إليه المباراة،،،،،

 

 

قصة قصيرة!! (مجموعة "خداع بصر"- 5)

 

قصة قصيرة !!

 

= إنها قصة قصيرة يا أنذال.. قصة قصيرة يا مجرمون..

--- نجيب محفوظ شخصياً كان يكتب روايات ملحمية وتختزلها أفلام السينما وتطيح بأبدع ما فيها..

= لأن المخرجين لا يفهمونها!

--- أو العكس!! لعلهم يفهموتها.. ويفهمزم شغلهم.. ويفهمون أنها مضيعة للوقت وواقعة بخسارة والأوجب حذفها..

= ولكني لست نجيب محفوظ..

كأنك تقنعني أن أترك أولادي للتسكع في الشوارع لأن جابرييل جارثيا ماركز كان يشجع أولاده على احتراف النشل..

--- مالك أنت ومال نجيب محفوظ وجارسيا ماركيز.. لقد أتينا لك بفرصة يشتهيها أساتذة كبار..

= أنت من استدعى اسم نجيب محفوظ لا أنا.. وأنا أرد وأفند حجتك..

--- صحيح لأني أقنعك أنك محظوظ وأن ما نطلبه منك لم يمانع نجيب محفوظ شخصياً بالتضحية بما هو أكثر منه..

نجيب محفوظ كاتب عالميّ لروايات طويلة بل ملحمية وكانت الأفلام تختزلها.. ويقول إن له روايته وللمخرجين فيلهم..

وأما أنت فتكتب مجرد قصص قصيرة والأفلام ستزيدها طولاً وتزيدك ثراءً..

يعني تكسب وتزيد على كل وجه ولا يُختضزَل منك شئ وانت لاتزال مبتدئاً..

= إنها قصص قصيرة يا دخلاء.. أشرح لكم..

إنها لا ليست قصص قصيرة بل قصص كثيفة..

أنا أدعو لتغيير اسم القصة القصيرة إلى القصة الكثيفة لأنها لا تقصر دون شئ مما تنشد بلوغه..

إنها سطور تكثف لحظة إنسانية..

دعو قصتي القصيرة لجمهورها!!

جمهور اللحظة جمهور البقاء يوماً يفكرون في لحظة مكثفة صاغها لهم من يفهم كيف يقرئون اللحظة المكثفة..

دعو ثالوث كاتب القصة القصيرة وقارئ القصة القصيرة وشخصية القصة القصيرة مع نفسه..

ما أقحمكم فيه لإفساد هناءة اجتمعه معاً بإجرامكم واختطافكم هذا؟

أفلامكم لها مصادر تترى بعيداً عن قصت القصيرة..

--- لنغير لغة الحوار: لن تستطيع حماية قصتك القصيرة لأنها مجرد قصة قصيرة..

فكرة بلا حجم ذي بال لن يمكنك من ثم إثبات أن فكرة الفيلم مأخوذة منها..

وحتى لو قدرت فلن تقدر قبل سنة واثنتين ويكون الفيلم قد ظهر وربح...

وسيحكمون لك جدلاً بمبلغ هو عشر ما نعرضه عليك بالاتفاق ودون خسارة وقت ولا أعصاب..

أي عاقل يقبل.. أي عاقل..

= أنا كاتب.. كاتب قصص قصيرة.. وهذه قصة قصيرة يا أنجاس.. لا يجوز تحويلها لفيلم.. انت لا تفهمون القصة القصيرة....

 

تجهمت وجوه الحضور

فأردف في اندفاعه الهائج:

= ولا حتى تفهمون السينما

فانفجرت ضحكاتهم بنبرة قبيحة الاستهزاء..

أكمل بصوت متهدج:

= عرضكم\تهديدكم كسافل يعرض على رجل كريم أن يتزوج ابنته بموافقته ومباركته وحضوره للزفاف أو أن يغتصبها قهراً أمامه..

يا ملاعين يا فاقدين لكل قيمة.... مالكم وقصتي القصيرة؟!

وصل خطابيّاً إلى هذا القول وقد وصل معه بدنياً للتشويح بيديه كمن يدافع عن أسرته،

وهو يمسك بالدفتر الذي من الواضح أنه يحمل سكريبت قصته القصيرة..

 

الآن في ختام نوبة هياجه الأولى نظر لهم نظرة الدعوة السافرة للطرد الخالية من أي ود مجاملة،

فوجدهم يجيلون بصرهم في غرفته فتبابع أينيقع بصرهم فانتباته حالة الهياج ثانيةً،

وقام يجمع كل الدفاتر ويحتضنها كمن يحميها من وحوش كاسرة، وهو يقول:

= وكل هذه قصص قصيرة أيضاً..

وانا في سبيلي لتصحيح التسمية وتسميتها قصص كثيفة.. قصص اللحظة المكثفة..

وأنتم تريدون أن تنتهكوها وتمطوها في سماجات أعمالكم..

لن تأخذوا قصتي ولو استدعاني الأمر أن أحوّلكم لقصص جريمة.. يا مجرمون يا سفلة..

 

كان قد بلغ قمة نوبة هياجه الثانية وهو يطيح في كل اتجاه بعدما وضع قصصه القصيرة على منضدة خلف ظهره..

واستفاق حين تنبه أنه وحيداً في الغرفة.. لم يدر إن كن وحيداً لأنه طردهم من الغرفة.. أم من خياله.....

لا يهم المهم أنهم انزاحوا دون أن يختطفو كراسة القصة القصيرة التي طمعوا فيها..

بقي مضطرباً ولم يهدأ هدوء الرضا حتى نظر لقصصه القصيرة مجتمعة على المنضدة، بعدما صار وحيداً في الغرفة..

لا ليس وحيداً الآن، ليس وحيداً أبداً....

تكرم عيونك سيدي (مجموعة "خداع بصر"- 4)

 

تكرم عيونك سيدي !!

 

كل مرة اقترب من التمثيل الرسميّ لجهة ما، إلى التحدث باسمها، الوفوف خطيباً أولاً  لها، يسبقني آخر..

ولكن شكراً لقيراط الحظ الذي بحقق السهل الممتنع عن فدان الشطارة..

 

كان هذا الدرس أرسخ ما تربّع في ذهني من الدراسة الابتدائية التي في سنتي الأولى بها أطلقوا حملة تسمية الفصول باسم الأول دراسياً،

وكنت "الأول مكرر" بسبب ترتيب حروف الهجاء ففقدت فرصتي التي اقتنصها الأول "غير مكرر" واسمه "ظافر" يسبق اسمي بحرف في ترتيب الهجاء المعمول به ألف باء تاء ثاء..."، وأما لو كان الترتيب التقليديّ "أبجد هوز..." هو المُعتَمَد لكنت أنا الأول وكان "ظافر" غير ظافر بتمثيل الفصل..

 

في السنة الثانية سأل مشرف الفصول: "من كان ممثل الفصل في السنة الماضية؟" وكرّره..

وفي كل سنة لم تعدم المقادير حيلة لتقريبي من اللقب قبل حرماني منه..

في السنة الأخيرة من دراستي الابتدائية جدّ على المدرسة طلبة "وافدين" من بلد قريب لظروف حرب هنالك..

وتصادف أن واحداً فيهم تطابق اسمه مع اسمي "عبده النقاش"..

وكنت قد حافظتُ على تفوقي الدراسيّ وتخطيتٌ "ظافر" ذاك الذي تعثّر في مسألة تافهة فصار "الثاني"،  فأتى الوافد وأنا الأول منفرداً....

 ولكن ويالعجب الصدفة المُركَّبَة فإن من تصادف أن يكون سميّاً لي تصادف أن يتفوق! ويحصد الدرجات النهائية.. نعم كان "عبده النقاش" الضيف الوافد هو أيضاً الأول.. كان الشهر الأخير قبل الامتحان النهائيّ للدراسة الابتدائيّة!

وكانت صدفة تطابق الاسم مع اقتسام المركز الأول في ذلك الشهر  مثار تندر  من الجميع، فكان طبيعياً أن نتعارف..

وكانت علاقتي به طيبة للغاية ولاسيما وهو لطيف المعشر،

وأتذكّر حينما حيّاني أول لقائنا بلكنة لطيفة بقوله "تكرم عيونك"..

وأما عندما كان يحبّي مدرساً كان يقول: "تكرم عيونك سيّدي"..

كان الزميل يتكلم بطلاقة ذات لكنة لطيفة محببة للجميع طالما شغفوا بمحاكاتها ولم أكن استثناءً منهم.

 

قبل ختام العام الدراسيّ النهائيّ للدراسة الابتدائيّة، أعلنت إدارة المنطقة التعليمية عن ملتقى دولي إقليميّ للمدارس الابتدائية،

ويمثل كل مدرسة فيها طالب واحد!

هل تكون فرصتي للوقوف ممثلاً للمدرسة؟ عبثاً..

علمت أن لجنة المسابقة الداخلية في مدرستنا بعدما فحصت درجات نتيجة آخر شهر تخيّرت قليلاُ في المفاضلة بيني وبين الزميل الوافد..

لقد اعتبرت اللجنة أن نتائجي السابقة لا يجوز النظر فيها لكون الزميل المنافس لم يكن قد جاء للمدرسة بعدُ، وبقيت تفاضل باعتبارات متنوعة حتى غلّبت سميّي الوافد بنصف درجة لجودة خطه!!

لقد علمتُ كل هذا من مدرس قريب كان متصلاً باللجنة فأفادني بالنتيجة وبمعاييرها حتى لا أُصدَم..

وهكذا بدا أني فقدت فرصتي مرة جديدة..

 

في يومٍ تالٍ تغيّب الوافد عن اليوم الدراسيّ كله،

وكان هو اليوم الذي دخل الفصل مندوبٌ من مكتب مدير المدرسة وصاح:

--- عبده النقاش مطلوب لمكتب المدير!!

فذهبت ولم يكن قد سبق لي لقاء المدير شخصياً..

بمجرد دخولي بادرني المدير:

----  يا عبده تقديراتك عظيمة ورغم أنك وافد ولكننا نعاملكم معاملة أبناء الوطن،

ويسر مدرستنا أن يمثلها احد اخوتنا الوافدين في الملتقى الدوليّ،

تفضّل بطاقة الدعوة للدخول لحفل الخطابة ممثلاً لمدرستنا كلها وخطيباً باسمها ومتحدثاً باسمي أنا شخصيّاً في الاحتفال.. مبروك يا عبده..

 

أعرف كيف حدث كل ما سبق، ولكن بصدق لا أعرف كيف حدث ما يلي..

إذ تلقّفت بطاقة الدعوة تلقاءً، وأنا أجيبه بلا تردد وبطلاقة ذات لكنة لطيفة:

= تكرم عيونك... سيدي. 



بعيداً عن الستر (مجموعة "خداع بصر" - 3)

 

بعيداً عن الستر

 

= الستر أصلاً دا المشكلة اللي انا هربان منها بالسفر....

ماهواش المكسب اللي الواحد بيدور عليه ولا حتى الدوا اللي بيخفف من وجع الفقر..

 

قالها وهو يهز تذكرة الطائرة التي يمسكها كمن يمسك بطوق النجاة في عاصفة لا يظهر لها نهاية..

فاجابه رفيقه الذي يظهر أنه في جلسة وداع معه:

-- يا صاحبي الستر نعمة.. إنت أول واحد يكرهه..

 

= مش فاهمني.. الستر في حد ذاته أمر طيب وعظيم..

 

-- امال مالك بس؟

 

= بافهمك إن مشكلة الستر مش في ذاته لكن في دلالته.. يعني ايه ستر؟ يعني واحد عنده حاجة مايحبش حد يشوفها..

يعني فيه حد واقف له وجارحه..

لما اسافر في بلد ماتعرفش غير الحرية والشغل ومحدش بيبص لحد يبقى مافيش احتياج هنا للستر..

 

-- "هنا" احنا يلزمنا الستر وبنحبه.

 

= "هنا" دي اللي باتكلم عليها هناك بالنسبة لك.. انا دلوقت هناك اللي بقى بالنسبة لي "هنا" في ضميري.. انا بعت "هنا" بتاعتك اللي "هنا" دي خلاص..

الستر في حالة الغربة اللي هي "هنا" بالنسبة لي و"هناك" بالنسبة لك ولا له معنى ولا له لزمة.. غير ذي موضوع يا أستاذ!

 

-- ضلِّمت المحكمة..

 

= هاا.. يوم لما افشل أواجه فشلي لوحده ماواجهمش معاه عينين الشامتين..

يوم لما انجح آخد فرحة النجاح لوحدي ماقسموش مع الحاسدين..

ساعتها يبقى مش محتاج الستر اللي هو كويس وتمام التمام لما مايكونش فيه حرية ومايكونش فيه خصوصية ومايكونش فيه ماهية.. زي "هنا" بتاعتك..

 

-- ربنا يديم نعمة الستر عالواحد..

 

= يعني تهديد مستديم بقدر ما ان الستر مستديم كدة..

 

أتى وقت الوداع..

وسافر كاره الستر وهو يشعر بالظفر..

كان ذهنه يعمل كجهاز تكييف متكامل يشفط الرطوبة والأتربة ويبخ الهواء اللطيف..

وكانت رطوبته وترابه هو ذكريات حاجته للستر طيلة مقامه في وطنه... وأما هواءه الطيف فتصوراته لمستقبل الحرية والمكسب،

وعدم الخوف من الحاجة للستر إن لم يتحقق المكسب..

 

شئ واحد من الماضي بقي عالقاً في ذاكرته رغماً عن جهاز الطرد المركزيّ الذي أعمله فيها....

شئ واحد... هو حواره الأخير مع صاحبه وكلمته عن الستر..

لاشك أنه فيلسوف كبير ولكن حتى هذا عليه بطرده من ذهنه فلا موضع للفلسفة مع بلاد الحرية والعمل والكسب وعدم الحاجة للستر..

 

ولكن لم يمكنه ذلك.. فبراعة دفاعه عن وجهة نظره التي أعجزت صاحبه عن الرد المنطقيّ بقيت متصدرة في ذهنه..

وتابع فكرته:

طالما كانوا يقولون "ربنا يسترها عليك"..

وحينما يسألون الفقير الراضي لا يقول، وبصدق، إلا: "مستورة"..

ما الذي أحوج الجميع للستر حتى أحبوه واعتبروه قيمة القيم والنعم؟

أليس رداءة حال نفس الناس الطالبة للستر؟

لو كان الجميع في حالهم وفي طيب الأخلاق،

 أكان واحد يخجل من فضح أمره ما لم تكن فيه جريمة- وليس لهذه يُمتَدَح الستر فيما يظن؟!؟

 

الستر نعمة هو لا ينكر كونه هكذا، ولكن لماذا هو نعمة؟ أليس لأنه يزيل نقمة مصائب الحسد والحقد والعوز والنقص وكل ما إلى تلك المصائب البشرية!!!!

ومن هنا فالحرية هي الحل..

الحرية بمعنى مطلق الحرية لا فقط حرية الحركة ولكن حرية النفس من الخوف من هجمات العيون والقلوب والمطامع..

وهو ذاهب إلى حيث يستطيع أن يقاضي من يكلمه دون إذن منه..

حيث يستطيع ان يسير في الشارع عارياً غير خجل من أحد،

لأنه لا يعرف "أحد" ذاك،

أو حتى إن كان يعرفه فللمعرفة حدود ولـ"أحد" احترام لنفس القانون..

 

فإذاً كان على حق.. ترك المرض بدوائه..

ترك القلق بطمأنينته..

لا حاجة للحل طالما لا مشكلة..

خسارة أن فاته أن يقول هذين "البقين" لرفيقه، فبهما من حسم الأمر ما كان ليقنع رفيقه بنظريته.. ولكنه هو مفتنع وسيذهب لآخر الطريق لن يتوقف في أي محظة يكون معروفاً فيها إلا لزوم الترازنيت المؤقت جداً..

 

--- حضرتك هتكمل ولا ترانزيت؟

 

أتاه السؤال بنبرة عارضة من جاره في الطائرة..

نظر إليه للمرة الأولى فرآه رجلاً تبدو عليه الحكمة والطيبة..

ولكن لم يبدُ انه كان يتكلم أصلاً.. لقد توهّم السؤال على الأرجح..

التقت نظراتهما فوجب عليه أن يرد بشئ، مثل إلى أين هو ذاهب ولماذا،

فقال، ليفتتح كلامه، مُغَلّفاً بشعوره بالفوز:

= ذاهب يا أستاذ إلى حيث عدم المشاكل..

 

--- مشاكل ايه؟

 

= المشاكل المعروفة..

 

--- عدم المشاكل المعروفة مشاكل غير معروفة.

 

يبدو أن جاره في المقعد أحكم منه وأقدر على فنون الفلسفة..

وليست تلك هي القضية..

فلقد نغزته إجابة جار السفر بصورة غريبة..

صورة المخدة التي كان يقلبها وقت نومه ليتخلص من حرارة وجهها الظاهر فيجد في وجهها الآخر حشرات ترعى..

 

ولكن ترى أي مشاكل يمكن أن تفوق مشكلة الناس "الحشريين"؟ الوحدة خير من رفيق السوء..

فيم سيحتاج آخرين؟

نظر تجاه جاره في الطائرة ليحاول ان يصل معه إلى حل وسط في الجدلية فلم يجده.. أين ذهب؟ لعل المضيفة قد أرشدته لمقعد آخر، او لعله ذهب لدورة المياه أو لعله كان يتخيّله..

ووجد نفسه وحيداً في المقعد..

وبقيت جدليته تقلقه بغير أن يحسمها..

ظهر التوتر على وجهه من إحساسه بالهزيمة....

فشعر بالخجل أن تظهر عليه بوادر هكذا إحساس أمام المسافرين،

فأجال ببصره ليطمئن... ولكن لم يظهر أن أحداً قد شعر بتوتره.... ولا به.


تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.