الخميس، 4 مارس 2021

قضية القصيدة الليتوانية (مجموعة "خداع بصر"- 8)

 

 

 

قضية القصيدة الليتوانية

 

 

 

"ألف" و"باء" وجيم" ثلاثة أصحاب من هواة النقد الأدبيّ،

وطالما يلتقون على أحد مقاهي المثقين..

ذات يوم تجادل "ألف" وباء" على عملية التقليد الأدبيّ.. 

"ألف" ادعى إمكانية عمل تقليد محبوك بحيث لا يمكن اكتشاف خداعه من داخله قطّ، وبغير دليل خارجيّ أي معرفة مباشرة بصنع التقليد عن عمد فإن هناك تقليد ما يمكن صنعه يستحيل كشفه.. أما "باء" فرفض هكذا إمكانية مصمماً أنه لا تقليد محكماً قط طالما هو تقليد.. 

اتسع الخلاف بينهما فشط عن ساحة الأدب إلى استرجاع معرفتهما بالرياضيات والذكاء الاصطناعيّ، واستعدى "باء" براهين ألان تورنج وجودل وتشرش بينما صمم "ألف" ان الحالة الادبية مختلفة لما بها من عنصر حيويّ يفوق كل النظم الرقمية الميكانيكية المعتمدة على الرموز..

لم يهدأ الجدل إلا باحتكامهما لثالثهما "جيم" مع عقد رهان بينهما..

"ألف" سيكتب عملاً أدبياً ويدعي له أصل ما، ويعرضانه على "جيم" فإن نجح في اكتشاف أنه مزور أو نجح في إيجاد أي مصدر من معارفه يميز التلفيق في عمل "ألف" فإن "باء" يكسب الرهان وإلا فإن "ألف يكسبه..

بعد الاتفاق انطلق "ألف" لصومعته وانهمك في تدبيج أتحوفته التالية:

 

 

سيحدث.. قصيدة ليتوانية

مع مذكرة عن رحلة الكفاح من أجل ظهورها للنور

 

  في عقب الحرب العالمية الثانية برز نيبويشا كارازابافيسكي من مدرسة الشعر الليتواني الحر والذي انتمت كل مدرسته تقريباً للمدرسة الوجودية؟؟

ونُشِر لكارازابفيسكي ثلالثة دواوين: "العصر التالي"، "لا محالة"، وديوان "تجميع"، والديوان الثالث أتى ناقصاً لم يكتمل بسبب مرضه ووفاته، وحرصت على جمع اشتاتها زوجته الرفيقة لورساسيا إيزابيانوفيتشا والتي صرحت إنها نشرته لتحصل على ثمنها الذي احتاجت له.. وقد لاحظ بعض النقاد اختلاط في ترتيب أبيات بعض القصائد في القصيدة الواحدة، وتداخل في مقاطع القصائد معاً وعزوا ذلك للعمل غير الحصيف المتعجل للورساسيا إيزابيانوفيتشا والتي لم تكن تقرأ شعر زوجها كما قالت مرةً..

 

 ومن بين القصائد التسعة والثلاثين تقف قصيدة "سيحدث متى سيحدث سيحدث في كل مكان"، المنشورة في الديوان الثالث، منفردة لحالتها الوجودية الصارمة والعنفوان التي ابداها كارازابافيسكي على غير عادته وقد عُرِف بالاكثر بالاكتئاب والميل للصمت.. وبقيت هذه القصيدة بلا شك مثار الجذب الأبرز لاهتمام نقاد الأدب الليتواني الحديث بين كل قصائد كاتبها التي تفرقت على صفحات الدواوين الثلاثة، ولعلها هي التي أعطت كارازابفيسكي أهميته وقدمته للغرب دوناً عن رفاقه من مدرسة الشعر الوجودي الليتواني الحديث..

 

 وأبرز مميزات القصيدة التي أثارت إعجاب النقاد الغربيين هي خاتمتها الشهيرة التي استوحى منها الثوار اللاحقون فكرة عدم الفكاك أحياناً من لزوم معاقبة المظلوم بسبب نتائج عقاب الظالم التس سينتج عنها أحياناً حتماً تغيير حالة المظلوم ونقله لما يوجب عليه التخلص منه.. وهذه الحتمية الوجودية التعسة أحسن كارازابفيسكي التعبير عنها ببراعة لم تكن متوقعة مع اتجاه القصيدة الذي يعمٍّي قارئها مع مطلعها ويوهمه بحالة وجودية معتادة كئيبة حتى يفاجئه بنموذج فذ لماساة وجودية تلعب فيها الحتمية الدور الرئيس وتشمل المظلوم مع الظالم والبرئ مع المذنب شمولاً أصم عن الرحمة بلا شفقة..

 

 وننشر هنا في هذه الورقة ترجمة عربية للقصيدة قام بها الأستاذ سلامة عبد الموجود وقدمها أولاً لقصر ثقافة شلشمون في المهرجان الشعبي الثالث للاحتفال بمديرية التحرير، فرُفِضَت القصيدة لأسباب سياسية بسبب صراع الاستاذ عبد الموجود مع السعيد غريب عضو الاتحاد الاشتراكي وقتها.. وبقيت الترجمة حبيسة الادراج وقبل وفاة الاستاذ عبد الموجود بشهور قُدِّر لها أن ترى النور عندما دعته الإشتراكية الدولية التاسعة لإلقائها كنموذج غير متكرر للتعاون الافريقي الليتواني في الإبداع القصصي والشعر النابع من مبدأ الأدب للمجتمع.. وقد ضن القدر على مترجمها باحتفاله بها وهي ترى النور إذ كان طريح الفراش في مرضه الأخير، فقام بإلقائها بدلاً منه صديقه الفنان إحسان بدوي ولم يسمعها عبد الموجود الذي كان يصارع المرض الذي ذهبر به من دائرة الوجود إلى حيز خلود المجد..

   ومع القارئ فيما يلي نص الترجمة كاملاً:

  

"سيحدث متى سيحدث سيحدث في كل مكان"

للشاعر الليتواني كارازابفيسكي

من ديوان تجميع

نشرته الرفيقة لورساسيا إيزابيانوفيتشا زوجة الشاعر

ترجمة الاستاذ المناضل سلامة عبد الموجود

 

سيحدث

متى سيحدث؟

سيحدث في كل مكان

طبيعة الحدث تلزم بحدوثه في كل مكان

فقد ملأوا كل مكان

نظرت للطفل

لعينيه

عندما تنظر لواحد

أي واحد

فإنك تنظر لعينيه

اليس كذلك؟

نظرت لعينيه

وظهر فيهما كل ما يؤكد لي صحة موقفي

كان ينبغي النظر لفمه حيث يخرج الزعيق المزعج موضوع المعاناة

لا.. لعينيه

فإن فمه سينطلق بالصيحات عالية التردد

وعيني لا تحتمل رؤية ما يزعج أذني

وإلا فلماذا كنت اقدم أصلاً على ما سيحددث؟

 

سأفعل ما أنوي بقطعة حديد لها مقبض خشبي

وناحية من ناحيتيها أسن من الأُخرى كثيراً،ً

سأفعل مع كل أولئك الذين لم ترتفع سنينهم عن التاسعة

ولم تنخفض ترددات اصوات عويلهم عن العشرين بمقياس ديسيبل

 

بيت طويل ذلك الأسبق

أطول من المعتاد في القصيدة

وليس أطول من عويل أحدهم

 

ولكنْ منهم أطفال طيبون

منهم الهادئون الذين لا يصرخون

أليس كذلك يا نيبويشا؟

قلت للأحمق: هراء..

عندما أبدأ مع أولئك الزاعقين سيزعق جميعهم حتى الساكتين.

 

انتهت أتحوفة "ألف" وعاود قراءتها وتزايدت سمات الرضا على النفس على ملامحه مع كل سطر يقرأه..

وعاد به مستثاراً للمقهى.. معه قصة محكمة تحوي قصيدة ليتوانية..

 

= ها هي قصيدة ليتوانية مع قصة ترجمتها وكفاح الرفاق المتصلين بها للنجاح في نشرها..

تاريخ وشعر وسياسة في ثلث ساعة وأتحدى ان يقرأها أي واحد ولا يقتنع أنها كذلك،

لا فرق إن كان من الذين يحبون الشعر الليتواني أو من خصومه..

إن "جيم" في طريقه لنا وسنرى هل يتبين الخدعة فيها أم لا..

 

--- أرني..... هاهاها.. أنت طريف جداً يا عزيزي.. من تظن تخدع؟..

أولاً هي فعلاً ليست من الشعر الليتوانيّ، لأنها قصيدة مجرية ثورية شهيرة!!

ربما أنت نجحت في إحاطتها بتلفيق قصة لها مستعملاً  أسماءً معروفة ومغيراً أسماءً أخرى،

ولكن رهاننا ليس على تلفيق قصة في تاريخ الأدب وإنما على تلفيق عمل أدبيّ يستغفل تلفيقُه الجميع..

عمدة عملك هو القصيدة المجرية وهي قصيدة بالفعل ولم تلفق فيها شيئاً..

 

= أثبت ذلك!!

 

--- أثبت أنت أنك كاتبها..

 

= برهان أني كاتبها أنها لا أصل ليتوانياً لها..

 

--- قلت لك لأنها ليست ليتوانيّة فعلاً.. هي مجرية..

 

= تحاول بخِسّة الدفع بادعاءات كاذبة للتنصّل من الرهان/

بعدما تيقنت من خسارتك له.....

 

فيما  "ألف" يرغي ويزبد غضباً أتى "جيم"،

ولم يفهم ما علة الغضب واحتداد النقاش،

فلخص له "باء":

--- الفكرة أننا تراهننا أنا و"ألف" أنه سيخترع قصيدة يدعي أنها ليتوانية مترجمة،

 وسنرى إن كان يمكن كشفها أم أن المحاكاة ستُعجِز حتى الخبراء..

& أهذا هو الرهان؟

حسناً ولكن كيف أحكم في الرهان وقد كشفتَ لي الآن أنها ملفقة؟

--- لأنها ليست ملفقة.. هي قصيدة حقيقية مترجمة من المجرية..

= كذب هو يحاول التنصل من الرهان بادعاء يفسده..

& إليّ بالقصيدة...... رائعة أياً كان مؤلفها.. لي أصدقاء خبراء في أدب أوروبا الشرقية..

اتركاها لي وموعدنا بعد الغد قبل وقت الآن بساعة..

 

في الموعد جلس "ألف" و"باء" متحفزين الواحد ضد الآخر حتى أتى "جيم":

& اسمعا من الآخر..

أنت تخادع يا "باء" فليس هناك قصيدة مثل هذه من المجر..

تأكدتُّ من أصدقاء متخصصين..

= إذاً انا أفوز.

& لا.. لا دليل معك.. ربما القصيدة ليتوانية بالفعل وقد وجدتَها في موضع ما.. وربما لا.. لا يمكن حسم الأمر.. عجز أصدقائي الخبراء على الإفادة القاطعة بكونها ذات أصل ليتوانيّ ومن ثم بالأولى بكونها منحولة أم أصيلة..

= أذاً هذا مزيد من الأدلة على نجاحي.. لقد ترجمتُ ما عجز الخبراء عن حسمه..

& بحديث المنطق لا.. هل تملك دليلاً أنك أنت المؤلف؟

= كيف هذا؟ هذه ليست قصيدة ليتوانية.. إنها بادية التهريج..

--- إذاً أنت تهدم الرهان بنفسك!!

& صه يا "باء" أنا الحكم ولا كلام بدون إذن.. على أن كلامك صحيح..

طالما هي "تهريج" فليس هناك تقليد محكم..

--- هاهاها.. أنت تخسر يا "ألف" أيضاً..

= أعد لي قصيدتي..

& للأسف أخذها الناشر الذي رحب بها وأعتبر التعاقد على نشرها هو أجري على تحكيم الرهان!

قالها وترك "ألف" و"باء" في معضلة إثبات أي شئ !!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تكرم بمطلق رؤيتك في التعليق

تعريف بشخصي المتواضع

  سألني نظام المدونة عند الدخول أن أفيد بصفحة للتعريف بماهيتي... إيجازاً أحسبه بإنجاز أجيتُ: أنا ما أكتب.